حاتم الطائي
◄ العرب أدركوا ضرورة لم الشمل وإعادة بناء مؤسسات الدولة الوطنية
◄ سوريا إحدى دول المركز العربي ذات ثقل استراتيجي مؤثر
◄ التعاون العربي المشترك يحقق آمال الشعوب في الاستقرار والرخاء
لم يكن العقد الأخير من زمننا هذا حافلًا بالخير والنماء لوطننا العربي؛ بل كان مُثقلًا بالآلام والآمال التي لم تتحقق، ورزحَ تحت وطأة الاقتتال الداخلي والعنف والشتات والتشرذم والتشرد والفقر والمرض وانهيار المؤسسات الوطنية وانسداد الأفق أمام أي نهضة عربية حقيقية، علاوة على تلاعب منظمات دولية وإقليمية في مقدرات الشعوب، ونهب الثروات، والأنكأ استباحة الدول عسكريًا واستخباراتيًا وفكريًا وثقافيًا، حتى صار مُعظم دولنا العربية أشبه بقطعة قماش بالية، لا يعلم الراتقُ أيَ فَتقٍ يُرقِّعُه، فتعمقت الأزمات وتكالب ذئاب العالم وأمراء الحروب على منطقتنا، ليجنوا ثروات برائحة الدم ومذاق العلقم.
ما يزيد عن عشر سنوات منذ اندلاع موجة الاحتجاجات العربية في أنحاء وطننا من المحيط إلى الخليج، إلا ما رحم ربي، منها ما تحوّل إلى ثورات حقيقية استطاعت أن تُغيِّر التركيبة السياسية أو على أقل تقدير "تجميلها" وإزاحة الحرس القديم عن سُدة السلطة، ومنها ما انقلب السحر على الساحر فيها، فتحولت إلى حروب أهلية واقتتالات داخلية دمرت الأوطان، وشردت الإنسان، وقضت على ما تبقى من نذر يسير من التنمية. غير أنه وبعد كل هذه السنوات، أدرك العرب أن لا مناص من لملمة ما تبقى من منظومة الدولة الوطنية في كل قُطر عربي، فقدموا الدعم الكبير لعدد من الدول حتى تمكنت من النهوض، والبعض ما زال يسعى للإفاقة من تبعات السنوات العجاف.. ولذلك لا ريب أنَّ عودة الدولة السورية إلى محيطها العربي مجددًا واستعادة مقعدها في جامعة الدول العربية، يمثل جزءًا من حالة ترميم الوعي العربي ومساعي إعادة بناء اللُحمة العربية من جديد.
التاريخ يُؤكد أنَّ سوريا واحدة من دول المركز العربي، ومحور ارتكاز ذي ثقلٍ لا يُمكن تجاهله، ليس فقط استنادًا إلى ماضيها القومي العروبي، ولكن أيضًا نظرًا لموقعها الاستراتيجي ضمن منطقة الهلال الخصيب، وباعتبارها نقطة اتصال رئيسية بين دول الخليج العربي وجنوب أوروبا، عبر موانئها المُطلة على البحر المتوسط، فضلًا عن كونها مصدرٍ لخامات أوليّة عدة، في مُقدمتها الفوسفات.
الموقف العربي حاليًا ما زال يواجه المزيد من التحديات والتهديدات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، التي تفرض على الدول العربية قاطبةً أن تسعى نحو صحوة عروبية تستفيد من حالة الزخم الحاصل في الأوساط العربية العربية، وعودة سوريا لمحيطها العربي، واستئناف العلاقات بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، لا سيما وأن سوريا أظهرت أنها رقم صعب في معادلة الأمن القومي العربي، ومحور رئيسي من محاور الاستقرار الإقليمي، خاصة وأنها تتمتع بعلاقات قوية مع إيران، فضلًا عن روسيا، الراغبة بقوة في بناء علاقات أفضل مع الدول العربية، في ضوء العقوبات الغربية المفروضة عليها.
لا شك أنَّ استثمار التعاون العربي المشترك سيعود بالنفع على منطقتنا؛ إذ إن السنوات الماضية شهدت انفلاتًا أمنيًا كبيرًا وتراجعًا شديدًا في التنسيق الأمني بين الدول العربية، لا سيما فيما يتعلق بمكافحة المخدرات والجريمة العابرة للحدود، وجرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وغيرها؛ الأمر الذي يستدعي الاستفادة من حالة التصالح العربي البيني، والدفع نحو علاقات عربية- عربية أقوى عن ذي قبل، والاستفادة من دروس الماضي، وعدم ترك المجال للقوى الإقليمية والدولية كي تتحكم في مصير الشعوب والدول العربية؛ بل أن يكون القرار العربي نابعًا من المصالح الذاتية، وليس إرضاءً لطرف على حساب آخر، أو سداد لفاتورة دعمٍ في أوقات الشدة.
إن الخوف كل الخوف أن يتسبب المزيد من الصراعات العربية الداخلية في العودة للمربع الأول، فحالة التصدّع التي تعاني منها دول عربية لا تخفى على أحد، ولنا أن نتمعن في الواقع العربي الأليم، فرغم انحسار الحرب في اليمن واقتراب الفرقاء من توقيع اتفاق سلام تستتبعه إجراءات لإعادة الإعمار ودفع قطار التنمية في اليمن الجريح، إلّا أنَّ بؤرة التهاب جديدة اشتعلت جذوتها في السودان الشقيق، والأسوأ والأمرّ، أن القوى المتصارعة في السودان مُسلحةٌ وتملك من العتاد ما يُهدد المدنيين الآمنين، وقد شاهدنا جميعًا أن حصيلة أسابيع من الاقتتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع تتخطى 500 قتيل، فضلًا عن آلاف المصابين، ونزوح أكثر من 700 ألف داخل الأراضي السودانية، وفرار ما يزيد عن 200 ألف إلى دول الجوار السوداني.
لذلك نرى أن القمة العربية المرتقب انعقادها في العاصمة السعودية الرياض، يوم الجمعة المقبل، تمثل فرصة مواتية للم الشمل العربي، وعودة التكاتف العربي- العربي، والإسراع في معالجة الأزمات وإنهاء الحروب والاقتتالات الداخلية. ولعل التوافق على إنشاء لجنة دائمة لحل النزاعات العربية الداخلية، على غرار التي أُعلن عن تشكيلها قبل يومين في مجلس التعاون الخليجي، من شأنه أن يعود بالنفع على أمتنا العربية، ويحقق التنمية التي يستحقها المواطن العربي، ويُعزز من التكامل الاقتصادي العربي، من خلال زيادة التبادلات التجارية، وضخ المزيد من الاستثمارات في مختلف الدول.
المملكة العربية السعودية من جانبها تؤكد في مختلف المواقف حرصها على إنجاح هذه القمة التي تستضيفها الرياض، وتجلى ذلك من خلال دعوة الرئيس السوري بشار الأسد لحضور القمة، ما يعني رسميًا إنهاء العُزلة المفروضة على سوريا، بعد قرار عودتها إلى جامعة الدول العربية بالإجماع، إلى جانب ما ستحفُل به القمّة من قضايا وموضوعات للنقاش.
ملفات عديدة ستناقشها القمة العربية المرتقبة وعلى رأسها الوضع الراهن في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ حيث يواصل الاحتلال الإسرائيلي تنفيذ جرائمه ضد الإنسانية، بإطلاق الصواريخ وتنفيذ الغارات الجوية، فيموت المدنيون، ويدفع الأبرياء الثمن، فيما يئنون من وطأة الضغوط الاقتصادية والحصار الجائر على قطاع غزة، وقبل كل ذلك اغتصاب أراضيهم، وتدنيس المقدسات في القدس المحتلة. ومن المؤسف أن يكون هدف حكومة الاحتلال من هذه الغارات الدموية صرف أنظار اليهود عمّا تعانيه دولة الاحتلال من اختلالات عنيفة تُنذر بنهاية وشيكة لهذا الكيان الغاصب.
ويبقى القول.. إنَّ عودة العلاقات العربية لما يجب أن تكون عليه من وئام واستقرار وتعاون يصل إلى مرحلة التكامل، ينبغي أن تكون الشغل الشاغل للقادة والزعماء العرب عندما يجتمعون في رياض الخير والمحبة، وكُلنا أمل في الخروج من هذه القمة بنتائج إيجابية تحقق النفع للمواطن العربي وتعزز التنمية التي تأخرت كثيرًا في بلدان عربية تزخر بمقومات وموارد لا حصر لها.