عائض الأحمد
فتح عينيه في إحدى القرى التركية، وسط عائلته الريفية البسيطة، فكان آخر عناقيد العنب ونهاية أشجار الكرم لأبويه، سبقه من أخذه القدر فلم يعرف أخاً أو صديقاً غير "حمار" عائلته، ولعل فقر أسرته وعمل والده عاملًا للنظافة في مكتب البلدية صباحًا وفي حقله الصغير في محيط منزله بعد الظهر، فسحة عيش، يجني من بعضها قوت يومه، ويساعده حمار عربته المهترئة في قضاء حوائج "البهوات" فكان هذا حاله ومآله كل يوم.
ولم يكن ينسيه أو يهنأ له عيش قبل أن يرسم قبله أملا في جبين "صابر" لعله نجاته من كل هذا حينما يكبر، ولكن هيهات فلم يمهله القدر، ثم تبعته بعد فترة قصيرة أم صابر حسرةً وألمًا على فقدان شريكها، فعاش صابر بعدهما وحيدًا يحدث نفسه ثم يسأل حماره هل من نجاة يا صابر، وكان يحدثه حديث النفس ويناديه صابر على اسمه، ويقول: يا صديقي أين سنصل غدًا؟ ثم يرجوه أن لا يفقده أو يتركه نائمًا ويرحل كما فعل والداه.
ولشدة تعلقه بأنيسه، ظن بعض العامة أنه مريض أو به مس من جنون، فكيف لشاب يعقل أن يضع نفسه بمنزلة حماره وأكثر، فهو يفضله على نفسه في مواقف عدة، ولم يكن أحدهم يعلم مدى هذا الرابط الوجداني الذي خلقته ظروف معيشته وقسوة الحياة، فكان رابط الوحدة المتشبث بحياة من يقاسمه المنزل والأنفاس ويتبادل معه أطراف الأحاديث دون أن يتذمر منه أو يقول له اصمت أو اذهب الى جحيم حارقة أو عنفوان قيظ.
وفي لحظات لم يكن صابر يعلم أنها قد تكون رحلة اللاعودة، وجد نفسه وحماره في مهب الريح وغادر قريته في خسارة مفاجئة لأحضان اعتاد عليها وانتقل إلى أقرب مدينة، فحار وتجمدت أوصاله، ماذا عن عديل الروح يا صابر؟ وهل يطيب لي العيش بدونه؟ فما كان منه إلا أن عاد إلى أطرف المدينة وجعل من صفيحها منزلًا لهما يدثره في البرد بما يجده، حتى أصبح في أحد أيام البرد القارص على فراقه لا حراك له، وكأنه يودع صابر قبل مساء، فعاد به إلى أطرف تلك المدينة الصاخبة ليجد لهما مكانًا يواريهما معًا. والحديث لذلك الكهل حينما يستذكر صابر ويقص وفاء البسطاء وتعلقهم بأشيأهم الثمنية مهما قلت قيمتها في نظر البعض ولكنها تكبر في أعينهم.
ثم يردف: كنت أتجاهل الحديث عن قيمة هذه القصة، فهناك من يعتقد أنها أسطورة من نسج الخيال وأنا شاهد على أحداثها، ولم أعد أملك منها غير ألم سردها لمن يسمعها بقلبه، دون أن يهمز أو يلمز بحديث.
الوفاء لا جنس له فهو مشاعر كامنة، تستنطقها الأحداث عند البعض، فتظهر كنور الشمس لا يحجبها غيم ولا يصدها ريح سائرة إلى هداها، ترتحل عبر الزمن في نفوس خلقت من أجلها فيحسبها البعض أساطير، وينعتها آخرون بالمعجزات، وكأن الأماكن تختلف ويظل الوفاء ثابتًا، فكما فعلها الكلب "هاتشيكو" قد يفعلها أحدهم في زمان آخر ومكان آخر.
*******
شيء من ذاته:
تسحقك الأقدار وينصفك الصبر.