سقف الحرية الذي نريد!

د. محمد بن عوض المشيخي **

الصحافة الحرة هي الضمير الحي، ونصير المظلومين، والضامن الوحيد لنجاح الأمم وارتقاء الشعوب نحو المجد، لم لا وهي التي يُفترض أن تراقب جميع مراكز القوى في أي بلد ديمقراطي، فلا تستقيم أحوال المجتمعات التي تحارب الفساد إلا بوجود تلك الرقابة التي تشخص أداء السلطة التنفيذية وتبين تجاوزاتها ومخالفاتها للقوانين والتشريعات الصادرة.

من هذا المنطلق، تعددت ألقاب الصحافة وتنوعت في واجباتها المقدسة؛ فهناك من يطلق عليها صاحبة الجلالة، ومهنة المتاعب، والسلطة الرابعة. وقد ظهر مصطلح السلطة الرابعة (Fourth Estate) لأول مرة في القرن الثامن عشر؛ إذ أعلنه الكاتب والسياسي الإيرلندي إدموند بروك في إحدى جلسات مجلس العموم البريطاني، بقوله: "ثلاث سلطات تجتمع هنا تحت سقف واحد في البرلمان، لكن هناك في قاعة المراسلين تجلس السلطة الرابعة وهي أهم منكم جميعا". والمقصود بالسلطة الرابعة بالطبع، القوة التي تتمتع بها الصحافة في التأثير على الشعب الذي يفوق السلطات الأخرى: الحكومة والبرلمان والسلطة القضائية، وهذا التوصيف ينطبق بالدرجة الأولى على الحكومات التي تحترم حرية التعبير، والشعوب المتعلمة التي تقدر الرأي والرأي الآخر.

لا شك أنَّ حرية الكلمة من أعظم النعم التي أنعم بها الله على الإنسان في هذا العالم المترامي الأطراف، ومن حسن الطالع أن يطل علينا اليوم العالمي لحرية الصحافة الذي يوافق 3 من مايو من كل عام هذه المرة، ونحن في ظروف مواتية أكثر من أي وقت مضى، بالنسبة لبلدنا العزيز سلطنة عمان. ولعل في مقدمة ذلك كله؛ الإيمان الراسخ لدى حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- بحرية الصحافة، وقبل ذلك كله بحرية التعبير التي تعد أشمل وأعمّ؛ لكونها تتعلق بكل الممارسات والأنشطة الإنسانية المختلفة التي يحتاج لها الإنسان؛ باعتبارها حقوقًا أصيلة ومكتسبات مستحقة لجميع أفراد المجتمع، أكدت عليها الشرائع السماوية وعلى وجه الخصوص الدين الإسلامي الحنيف، قبل منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية التي ظهرت لأول مرة في القرن العشرين.

وقبل أن يُلملم عام 2022 أيامه الأخيرة، تشرفت بكتابة مقال بعنوان: "حرية التعبير في فكر السلطان هيثم"، وتضمن ذلك المقال ما وصلني عبر المكرم حاتم الطائي رئيس تحرير جريدة الرؤية العمانية، حول تثمين وتقدير قائد هذا البلد لكُتّاب الرأي في الصحافة العُمانية، وقد علمتُ أنَّ جلالة السلطان هيثم بن طارق خلال اجتماعه برئيس وأعضاء مكتب مجلس الدولة أبدى تقديره لهذه المقالات، حتى وإن كانت بعض الكتابات تتسم بالعجلة والحماس الزائدين. لكن جلالته في نفس الوقت يُؤمن بحرية التعبير والرأي الآخر لكل إنسان، وإن كان هناك اختلاف في وجهات النظر، فتلك سنة الحياة. وتعدد الآراء يساهم في اتضاح الأمور وانكشاف الحقائق؛ وتبني الاستراتيجيات وتحقيق الطموحات الواعدة للوطن.

أما العامل الإيجابي الثاني، فيتمثل في نهج جمعية الصحفيين العمانية التي احتضنت لأول مرة في تاريخها احتفالية رمزية بمناسبة اليوم العالي لحرية الصحافة في مقرها؛ وذلك لمناقشة تقريرها السنوي الأول حول حرية الإعلام في السلطنة، من خلال رصد الممارسات الصحفية في مختلف المؤسسات الإعلامية، مع التركيز على التحديات التي تواجه الكوادر الإعلامية وتعيقهم عن أداء واجبهم تجاه المجتمع، وقد غطى التقرير أحداث العام المنصرم (2022). وقد تشرفتُ بأن أكون أحد الذين خصتهم إدارة الجمعية بهذه الدعوة الكريمة التي جمعتني بكوكبة من المختصين في الشأن العام وحرية الصحافة من مجلس عُمان بغرفتيه الشورى والدولة؛ بهدف الاطلاع على ذلك التقرير قبل اعتماده ونشره عبر وسائل الإعلام. وقد احتوى التقرير على العديد من المعوقات المزمنة التي لا تطاق ولا تسقيم مع توجهات وطموحات الشعب العماني التواق إلى الحرية.

قانون المطبوعات والنشر الذي يعود إلى 1984 في مقدمة هذه التحديات؛ لكونه يتضمن 77 مادة ومعظم هذه المواد عبارة عن ممنوعات ومحظورات في زمن السماوات المفتوحة والثورة التكنولوجية التي تزخر بتدفق غير مسبوق من المعلومات. كما أن الرقابة الذاتية تعد واحدة من أخطر التحديات التي تواجه الإعلام العماني؛ فالخوف من الوقوع في المحظور يُشكِّل الهاجس الأكبر لجميع العاملين في المهنة، خاصة حُراس البوابات الإعلامية من المسؤولين عن ما ينشر في وسائل الإعلام. وقد تضمن تقرير الجمعية مشكلة الحصول على المعلومات من مصادرها؛ إذ تواجه وسائل الإعلام صعوبات بالغة للوصول إلى الحقائق والمعلومات التي يحتفظ بها صناع القرار في أدراج وزارتهم بعيدًا عن الصحفيين، مع غياب كامل للمتحدث الرسمي الذي يُفترض أن يكون من أعضاء الحكومة أو المُطّلعين على السياسات العامة للدولة ومشاريعها وخططها الاقتصادية.

من الأمور الجديرة بالملاحظة والاهتمام، تلك الأفكار الرائعة التي سمعناها من بعض الحضور خلال الجلسة الحواريةـ وما تضمنته من عصف ذهني حول الدعوة لإيجاد جهة مُحايدة تقوم بالإشراف وتنظيم العمل الإعلامي في السلطنة بدلًا من وزارة الإعلام التي باتت تملك أجهزة ومؤسسات إعلامية منافِسة للإعلام الخاص.

لذلك، فإن إيجاد مجلس أو هيئة مُستقلة تتولى تنظيم جميع المؤسسات الإعلامية، العامة منها والخاصة، والإشراف على تطبيق القوانين الإعلامية النافذة، أصبح من الضروريات التي تقتضيها المرحلة المقبلة، التي تتطلب الشفافية والحوكمة؛ فالجهات الإشرافية الحالية، وَضَعَتْ نفسها في موضع القاضي والخصم في آنٍ واحدٍ.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري