علي الرئيسي **
أخيرًا صدر كتاب يُسلِّط الضوء على صناعة الاستشارات، وبالذات الشركات الكبرى التي تؤدي دورًا محوريًا في تقديم الاستشارات للشركات والحكومات في العالم؛ فكتاب "الاحتيال الكبير (The Big Con).. كيف تتسبب صناعة الاستشارات في إضعاف الأعمال، وتصغير الحكومات وإعوجاج الاقتصادات؟"، من تأليف مارينا ماسكوتو وروزي كلونكتن، يسد فراغًا في دراسات ظاهرة هذه الشركات والدور المحوري الذي تؤديه في نشر "النيوليبرالية".
ماسكوتو وكلونكتن أكاديميتان في معهد الابتكار والقضايا العامة في الكلية الجامعية في لندن، تطرحان أسئلة في غاية الأهمية: ما هو الشيء الذي تبيعه شركات الاستشارات فعلًا؟ الرد يبدو أنه الثقة، والسمعة، فهم يدركون ما يفعلونه بمستوى خبرة ومعرفة أعلى من تلك التي لدى العميل. أو أنها ليست سوى أكثر من "خدعة الثقة " مهارة توفر ربحًا ضخمًا مقابل القليل من المساعدة الفعلية. وتدرس المؤلفتان بعمق أنشطة الشركات الاستشارية العملاقة، وبالذات "ماكينزي"، ومجموعة "بوسطن للاستشارات"، و"إين وشركاه"، وشركات "الأربعة الكبار" للمحاسبة.
لقد توسعت أعمال هذه الشركات بشكل كبير خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي؛ وذلك على خلفية الموجة النيوليبرالية للخصخصة، والتعاقدات الخارجية (outsourcing) وإعادة الهيكلة. وبينما يقدمون أنفسهم كمستشارين موضوعين، عادةً ما تتضمن مقترحاتهم خفض عدد الموظفين والتركيز على المكاسب قصيرة المدى. وتسوق ماسكوتو وكلونكتن أمثلة عديدة؛ حيث إن مقترحات هذه الشركات كانت خاطئة على نحو مذهل، على الرغم من أنها ربحت أموالًا طائلة من تلك الاستشارات!
قد يعتقد البعض أنه إذا كان العميل يحصل على ما دفع ثمنه، فهل يهم ذلك حقًا؟ الكتاب يجادل بأن العملاء لا يحصلون على أفضل النتائج من هذه الاستشارات، وفي نفس الوقت الاعتماد على الاستشاريين يُعيق الابتكار ويُضعف من الحوكمة والمحاسبة، حتى إنه يُعرقل مكافحة التغيرات المناخية.
من تلك الأمثلة الواردة بالكتاب، أنه حينما بدأت جزيرة بورتوريكو إجراءات عملية الإفلاس في عام 2016، وأصبحت الجزيرة التابعة لأمريكا أحد عملاء ماكينزي الجدد، جرى التعاقد مع الشركة لتكون استشاريًا لمجلس فيدرالي مُعيَّن من الحكومة. وبناءً على ما ورد في مجلة "نيويورك" كان المطلوب من الشركة وضع رؤية طموحة للجزيرة. وعُيِّنت ماكينزي ليرأس فريقها الاستشاري خريجٌ من جامعة هارفرد يبلغ من العمر 30 عامًا، وآخر خريج عام 2016 من جامعة كولومبيا ليساعد في عملية تقدير الكُلف اللازمة وعملية تقليص عدد الموظفين، وخريج جديد من جامعة "ييل" الأمريكية لتقييم أضرار الاعصار. وفي النهاية قدمت ماكينزي مخططها لاقتصاد الجزيرة المتعثر والذي تضمن خصخصة المؤسسات العامة وإزالة تدابير الحماية للعمال.
وتُوِرد المؤلفتان العديد من الأمثلة الأخرى المُقنِعة حول خطورة الاعتماد المبالغ فيه على صناعة الاستشارات، كمثال دور شركة ديلويت (Deloite) في برنامج التعقب في المملكة المتحدة، أو دور شركة ماكينزي في توزيع اللقاحات المضادة لكورونا في فرنسا.
وتشير المؤلفتان إلى أن خبرة الاستشاريين غالبًا ما تكون مبالغًا فيها، وتميل الى العموميات بدلًا من التخصص. والتوظيف المُفرِط للشركات الاستشارية يقوّض قدرة المؤسسة على بناء رأسمالها الفكري، مما ينتج عنه مشكلات تحتاج الى الاستعانة بالمزيد من الشركات الاستشارية لحل هذه المشكلات. وتُستخدم الشركات الاستشارية غالبًا من قبل الرؤساء التنفيذيين في الشركات والمؤسسات الحكومية كغطاء لتمرير سياسات، وككبش فداء أحيانًا، خاصة إذا كانت هذه الإصلاحات جدلية أو لا تحظى بقبول شعبي.
ماسكوتو وكولنكتن تزعمان ان الاستشارات أضعفت الشركات وافرغت قدرات الدول، وتؤكدان أنه "كلما زاد تعهد الشركات والحكومة بالتعاقد الخارجي كلما تضاءلت معرفتها وقدرتها على الإنجاز".
يتضمن الكتاب نسخة من مصفوفة النمو لمجموعة بوسطن الاستشارية، وهو رسم تخطيطي يشتمل على الصور الظلية المقطوعة من "بقرة ونجم وكلب وعلامة استفهام" ترمي الى مساعدة الشركات في فصل الاعمال المربحة عن تلك الخاسرة. وتم تقديم الرسم التخطيطي في عام 1970، وتم تدريسه على نطاق واسع في كليات إدارة الاعمال في العقود التالية.
والحقيقة أن الرسم التخطيطي لا يبدو في غير محله إذا تم تضمينه في كتب الأطفال!
** باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية