ماجد المرهون
majidalmrhoon@gmail.com
أبدأُ في هذا الحديث من "وأخيرًا.."؛ حيث كان بالإمكان القول “صائدو السعادة" حتى يكون العنوان أكثر قبولاً وأجدر التئامًا مع الإيجابية، إلّا أن السلبيات باتت أكثر جاذبية، ذلك أن السعادة هي الأصل في الحياة وحريٌ بها أن تكون كذلك، بينما التعاسة دخيلة عليها، غير أن صورة تدني الوضع في كل شيء والتي شكلتها فرشاة صائدي التعاسة من حولنا قد وضعتها في بروازٍ نمطي أضحى سائدًا.
كما أن الحس الجمعي قد وقع في وهم صعوبة إدراك السعادة الحقيقية وخُيِّل له أن التعاسة هي الأصل في حياة إنسان اليوم، والسعادة هي الدخيلة عليه وما خُلقنا لنشقى، ومن الطبيعي أن لا نشعر بمعنى السعادة دون منغِّصات، كما أنه ليس بالضرورة أن يكون المرء تعيسًا في الوقت الذي لا يكون فيه سعيدًا؛ فهناك هامش وسعة كبيرة بينهما، مع عدم إغفال أهمية الميل للسعادة في كل شأن نقوم به ولو في أدنى درجاتها، وإلا تحول الأمر إلى نوع قاسٍ من الإكراه على القيام به وتنفيذه، وبلا ريب أن النتيجة المرجوة لن تتحقق حسب المتوقع؛ إذ لا يتفق الإبداع والإكراه معًا، وإن صح ذلك فقد حكما- الإبداع والإكراه- على طرد السعادة بشكل صريح واستجلبا محصلة غير مُرضِية، (كافئ نفسك بكوب قهوة بعد عمل جيد).
وتأتي اللحظات الجميلة على قدرٍ من الاختلاف، فمنها ما نصطنعه لأنفسنا وما أجمله، ومنها ما تولِّده الصدفة وهو أكثر جمالًا، وإن لكل لحظة ميزتها عن الأخرى حسب المكان والزمان والظروف وسجية الإنسان في الشعور وطريقة التعبير، إلا أنها قد تجتمع أو تتشابه كلها في إدخال البهجة والسرور على النفس، وربما يتبادر إلى الذهن أحيانًا أن مداخل السعادة باتت في وقتنا الراهن قليلة أو ضيقة، وهو شعور خاطئ سبَّبه ضعف الأمل وسيطرة الحياة المادية بنمطها السريع على المشهد العام للناس، ما غور مكامن السعادة إلى أعماقٍ يُعتقد أن بلوغها يتطلب الاستعانة بمساعدات ومؤثراتٍ مساندة والحقيقة أن السعادة تكمن في كل شيءٍ من حولنا، ولكن اختلاف أساليب التعايش قلل من ملاحظة فرص اقتناصها، (قد يبدو الفشل في حياتنا أكثر حظًا لكنه سبب النجاح).
الكثير من الناس اليوم لا يرى سوى سلبيات الأمور التي تحول معظم مناحي حياتنا إلى شكل من أشكال التعاسة وفي أقلها الباطنية، حتى خُيل لنا أن السعادة هي الجزء المفقود الذي يجب البحث عنه، ولا أعتقد؛ بل أجزم، أن لا عاقلًا يريد البحث عن التعاسة في أكوام السعادة، ولكن العكس بدأ في الظهور على مستوى شريحة كبيرة من الشباب الحري بهم بث روح التفاؤل والأمل ونبذ الإحباط والخذلان، فقد خلق الله كل شيء على مبدأ التسخير وخلق الإنسان كائنًا يتسع إدراك ذهنه للكون كله بحسب مكتسباته العلمية، وألهمه نفس المبدأ القادر على تحويل ما حوله إلى فرصٍ يستفيد منها، شريطة أن يتسبب ليكتشف سر ذلك من خلال رؤيته ومنظوره وأدائه وملائمة ظروفه ولَيْ أعناق صعوباته، (الله خلق البرتقال والطبيعة لن تعصرها، فأصنع من البرتقال عصيرًا).
هناك أنواع كثيرةٌ من السعادة ولكن ثلاثة منها تهمنا، أولها هي السعادة الحقيقية التي تتحقق بشكل مباشر وفعال كالاقتراب من الطبيعة وملامستها حسيًا ومعنويًا، ومُجالسة الحكماء والصالحين والأصدقاء والأطفال، والأعمال الخيرية والتطوعية والتبرعات، وممارسة الهوايات المفيدة وإن كان في بعض منها شيءٌ من العناء، إلا أنه عناء مقصود له لذته الخاصة والراحة النفسية التي يعود بها هي أصل السعادة، والثانية هي السعادة التي قد تتحقق دون أن تتطلب قدرًا كبيرًا من الجهد والعناء وربما يُطلق عليها الحظ أو النصيب، وغيرها من هذه المسميات، ولن نخوض في الحديث عن القضاء والقدر تجنبًا للإطالة، مثل التقدم لشغل وظيفةٍ مرموقة ذات دخلٍ جيد والحصول عليها سريعًا أو المشاركة مثلًا في قرعة لسحبٍ كبير على سيارة فارهة ثم الفوز بها في نفس الوقت، ولكن كم هو عدد من يتحقق لهم اكتساب ذلك بالمقارنة مع العدد الكبير للمشاركين؟!
هنا يأتي دور النوع الثالث من أنواع السعادة المُركّبة أو المؤلفة، وهي التي تُعنى بالبحث بعيدًا في الأمر الذي لم تتحصل منه، فعدم الفوز بالوظيفة أو السيارة حدث لسببٍ علمه عند الله وربما سبق في علمه القديم حماية من مكروه أو وقاية من مصيبة أو تسخيرٍ لأمر آخر هو في علم الغيب، وهنا يقع وَهمُ العامة في عدم إدراك ذلك فيُلقى باللائمة على الحظ والنحس والظروف وغيرها من الأسباب المثبِّطة، ولكن من يستطيع إدراك مكامن السعادة في مثل هذه الأحوال هو إنسان يتمتع بجهاز مناعة نفسي جيد جدًا وقادر على مواجهة ما قد يحل به من ملماتٍ ومعضلات، (لعل الذي أبطأ بها يكون خيرًا من تعجيلها).
قد يعاني أحدنا في المحافظة على شيءٍ ما اشتراه بسعرٍ مرتفع أكثر من سعادته باستخدامه، وربما يلمح لاحقًا أنه لم يكن ذي ضرورة وأن قرار اقتنائه كان خاطئًا، وقد يدفع آخر سنوات من عمره في كسبِ علاقاتٍ يكتشف لاحقًا أنها فاشلة وعادت عليه بالويلات، وقد يستثمر غيره الملايين من الأموال لنيل مكاسب معينة في وَهم تحقيق السعادة المستدامة بعد عشر سنوات أو عشرين سنة، ثم يجد نفسه تعسًا في حسرات التفريط بسنينه الماضيات ومحاولة تحقيق السعادة البعيدة ولم يلاحظ القريب منها، (لا تخف على كرسيك من الاتساخ، استمتع بالجلوس عليه حتى يهترئ). وفي جانبٍ آخر نجد بعض مجتمعاتٍ شديدة الفقر إلا أنها تعيش حالة من السعادةِ يصعب فهمها وتفسيرها وقد كنا كذلك في السابق، ولعل وازع الرضا والقناعة؛ بما هي فيه مع يقين استحالة تغيير واقعها بحسب معطيات الظروف والأحوال لديها هو السبب، مع التأكيد على أن السعادة لن تتحق إطلاقًا في وجود الظلم والقهر والقمع في أي مجتمع وتعتبر هذه العناصر من أهم الدوافع المحفزة لتمرد الإنسان على واقعه ولو بعد حينٍ وإن طال صبره، (أكثر ما يخشاه المستبد عقول المستضعفين، فإن تبناها ضمِنَ ولاءَهم).
لا قدرة لدى بعض الناس على الفصل بين الأمور؛ حيث يحافظ على هموم عمله وبيته وحياته فوق رأسه بشكل وثيق ويحملها معه إلى سرير نومه، حتى يتحول بعد فترة من الزمن إلى كائن بشري مشع للكآبة في قُطر دائرةٍ لعدة أمتار من حوله ونستشعر موجاته عن بعد من خلال رصد فرطٍ في العتب وأحيانًا في اللعن والسب، ويطلقها في الأرجاء عبر مواقع التواصل فينقل عدواه لكثيرٍ من اليائسين وممن يعتقد بتقطع سُبل الأمل المتمنين نيل المطالب دون إهدار ذرة جهد، بينما السعداء هم من لديهم القدرة على الفصل بين شؤونهم الدنيوية بحيث أن عقله قد تدرب على ترتيب الأولويات وتغيير التفكير بتغير الظرف والمكان والحد من مسببات الهم والقلق والتوتر، ولذلك المتحلون بهذه الصفة هم الأطول عمرًا والأكثر قدرة على التميز، وهم من ينهمكون بالعمل في حالة من عطاءٍ متدفق وإبداعٍ منهمر، مع وجود المحبطين من حولهم في نفس البيئة.
بعد كل ذلك وأقوالي بين قوسين، آتي إلى أولًا (إن الاقتراب من الله قولًا وعملًا هو أعظم مصادر السعادة).