انسجام الأضداد ومرآتك الداخلية

 

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

يستيقظُ مالك المزرعة ليُنهي تجهيزات رحلة صيد سمك القرموط، وقد عقد العزم هذه المرة أن تكون فتحات شباك صيده واسعةً حتى يضمن احتجاز الأسماك الكبيرة وأن لا تلتقط الأسماك الصغيرة، ليس حبًّا فيها وإنما انحيازًا إلى مبدأه الضعيف بالتأكيد أن معظم أسماك هذا النهر كبيرة؛ وبعد إنهائه الاستعدادات اللازمة مبكرًا عمد إلى جلسةٍ صباحية مع كوب مصنوع من الطين ليحتسي قدرًا يسيرًا من الشاي، وتحدثه نفسه عن الكتاب الذي يشاهده كل شهرٍ في مخزن مزرعته وهو يَعِدها بقراءته، مسوفًا الأمر منذ سنين، ولائمًا الوقت الذي لا يسمح بذلك، وفي جواره طاووس مبهرج عظيم الجسم صغير الرأس ولا يصلح نصفه ذات ليلةٍ إلا حساءً والنصف الآخر مشويًا إن لم يتوفر السمك على مائدة الغداء.

يُشاهد الطاووس وهو يتباهى بجمال ريشه على أقرانه عصفورةٌ زرقاءَ صغيرة تبدو ضعيفة ولا حول لها ولا قوة، ولا تشكل أدنى خطرٍ على نفوذ مالك المزرعة، وهي تغرد على غصن شجرة حور، وعينٌ في السماء ثاقبةً ترصد الحدث وقد بسط صاحبها نفوذ قانونه على فضاءات المزرعة ويسخر أحيانًا من تغريد العصافير المسكينة في نظرة؛ طفِق الطاووس مرفرفًا بجناحية غير المستغَلين في الطيران، وفرد ريشة الأخضر العاكس صارخًا بصوته المنكر على قناة الماء: أنا لم أذهب طوال حياتي إلى محال التجميل، وإن الجمال المصطنع همٌ بعد الغروب وذُلٌ بعد الشروق، وكل ماترونه وما أخبركم به الآن هو نتاج جهودي الذاتية، وبقية طيور المزرعة ترمقه بنظرات يملؤها الحنق والاستهجان، إذ تحرك بعضها للبحث في مضامين وتضاعيف المغرور المسترسل في محاولته مدح نفسه والثناء عليها بطريقة الإشارة غير المباشرة وفي قالب النصيحة، وهكذا يفعل من يُساوره الكبر بعد التغرير، ثم يُسهب في إلقاء المواعظ فيقول الغراب لصاحبه: "نحن لا نجد ما يسد رمقنا، وصاحب الريش الأخضر يحدثنا عن أضرار التخمة، ورجال البيئة قد أثخنوا فينا ومزقونا كل مُمَزقٍ -طبعًا باللغة الغربانية- فهل يا تُرى يدفنون جثثنا كما علمناهم، أم أنهم يتخلصون منا بطرقهم الحديثة؟!"، لا أعلم، يجيب صاحبه الحكيم، ودعنا نستكمل خطتنا في نظرية الكايزو، وكما تعلم أن "الليونة تغلِب الخشونة وقطرات الماء تثقب الحجر"، وهنا ترصد عين الصقر عصفورة زرقاء ثانية قليلة التغريد على غصن شجرة أخرى.

عددٌ كبير جدًّا من طيور السمان في زاوية أخرى من المزرعة يملأ ضجيجها الأرجاء صخبًا (والذين يعرفون لا يتحدثون، والذين يتحدثون لا يعرفون)، ولا يلتفت لها أحد؛ حيث اعتاد ساكنو المكان نقيقها، كما اعتادت هي على ضيق الأقفاص وشح الطعام والقطط المتربصة على مدار الساعة، وتحلم بالمخَّلِص القادم في لحظات ضعفها وانكسارها وترسم مخيلاتها الخصبة صورة طائر الفينيق، المُنقذ الذي سيأتي في المستقبل البعيد فتتهيأ له كل الظروف آليًّا في ليلة وضحاها دون مقدماتٍ أو جهد يسبقه عمل، مع أن عصور المعجزات قد ولت بلا رجعة، إلا أنها لا تزال حاضرة بقوة في ثقافة طيور السمان. ويغادر أحد العصافير الزرقاء غصن الحور ليخلفه غيره، ثم يأتي آخر ثم آخر وهكذا إلى أن يصعب رصدها، ثم يستحيل فهمها مع تداخل تغاريدها، لكنَّ الديك الرومي الصامت غالبًا لديه آلية غربلة تجميع النصوص وتفكيك الرموز، وقد يخفي الأمر سرًّا عن الجميع ويستأثر بمكاسب ذلك لنفسه في طي الكتمان إلا ماندر بالإفصاح عنه كنوع من الشفافية.

"هناك شيءٌ يحدث".. الصقر محدثًا نفسه وهو يُحلِّق منخفضًا فوق أشجار المزرعة، ويلاحظ ازدياد عدد العصافير الزرقاء وتنقلها السريع فوق الأغصان وبين المزارع المجاورة، ويأتي بعضها ويذهب بعيدًا من وإلى أشجارٍ يخضع فضاؤها لنفوذ الباز والعوسق والشاهين، ولا تزال ذات الصقر الخيالية تخبره بأنَّه هو الحر، ملك السماء ولن تضره العصافير الهزيلة، ومن استطاع منها تخطي حدوده التي رسمها فليس له من جزاءٍ سوى الافتراس، ولا تصدق الخرافات والأساطير التي تسمعها بين الفينة والأخرى من هنا وهناك؛ فلا وجود لطائر العنقاء؛ حيث صنعه بعض ذوي الريش لاشغال مجتمعهم بالمنقذ القادم، وركونهم للخمول في أعشاش الأحلام والكسل، ثم ترك العمل مقابل أملٍ لن يتحقق.

"سأبقى أنا في المعالي حُرًّا" يقول الصقر، وعلى الطاووس تحمل مسؤولية ما يقول وما جنى به على نفسه من عداءٍ وكراهيةٍ كان في غنى عنهما مع طيور المزرعة التي لن يهدأ بالُها حتى تنبش في أدق تفاصيل حياته وخصوصياته وإن اضطرت للتدليس والتلفيق فلن تمانع؛ إذ أعطاها غروره المبطن بالنصح دافعًا ممتازًا للبحث والتقصي و"يتعين على الحكيم أن يتقبل الإساءة بصدر رحب وأن يقبل سوء الظن على أنه من طبع الوجود".

تُخيِّم على الأرض ظلالٌ كثيفة من جناحين عظيمين قادمين من الشرق ويحجبان شمس الضحى ليستحيل النهار ليلًا، فيهرب الصقر ويخرس الطاووس وتذوي فرشة ذيله ويستبشر السمان في معزله ويؤجل تطبيق الكايزو معشر الغربان، ويختبئ الرُّومي تحت عباءته السوداء ليستفيق مالك المزرعة على قطراتٍ دافئة فوق رجله بعد غفوةٍ قصيرة وعينه على الكوب الطيني و"الفراغ داخل الإبريق هو الذي يجعل من الشاي صالحًا للشرب، اصنع من الفراغ شيئًا"، ويتنحنح واقفًا مع مبدأ "عودة كل الأشياء إلى أصولها"، وعينه الأخرى على كتاب "الطاو" للمعلم القديم الذي لم ينجُ مولده هو الآخر من عبث أصابع الخرافة، حيث خرج من بيضة طائر أسطوري خُلِق من تحت الرماد، وفقست في السماء، ليولد بشعر أبيض بعد فترة حملٍ دامت 8 سنوات.

إنَّ كل ما جاء بين قوسين أعلاه من أقوال المعلم القديم لاو تسو.