احذروا أيها الورثة!

 

حمد الحضرمي **

 

تمر علينا قضايا ودعاوى مؤلمة مُحزنة تقع أحداثها ووقائعها في مجتمعنا، وتحدث وقائعها في أسر كانت مُتماسكة مترابطة قوية الساس لها مكانتها وسمعتها الطيبة في المجتمع. وسوف أطرح عليكم اليوم قضية من هذه القضايا التي تؤرق مجتمعنا وهي قسمة الميراث بين الورثة.

شرع الإسلام نظام الميراث وراعى فيه أصل تكوين الأسرة البشرية التي خلقها الله من نفس واحدة، فلم يحرم امرأة ولا صغيرًا، ولم يميز جنسًا على جنس، فهو نظام يُلبي رغبات الإنسان في أن لا تنقطع صلته بنسله، وأن يمتد هذا النسل إلى ما شاء الله له أن يمتد وقد تكفلت الآيات القرآنية الكريمة من سورة النساء بتفصيل الورثة وتحديد أنصبتهم وتضمنت الآيات علم الميراث.

إن الله سبحانه وتعالى أراد للأسرة أن تقوم على الأسس والقيم الصحيحة السليمة، فأرسى الأسس القويمة لتكوينها تكوينًا سليمًا،من أجل توفير جو صحي سليم لتربية الأبناء فيه تربية سليمة على القيم والأخلاق الإسلامية الحميدة من المودة والرحمة والمحبة والألفة،وعلى مبادئ المساواة والعدل والإنصاف بين الأبناء في حدود الله وفرائضه.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تعلموا الفرائض وعلموها الناس"، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر ؟"تعلموا الفرائض فإنه من دينكم وإنه نصف العلم وأنه أول علم ينزع من أمتي". وللميراث ثلاثة أركان لا بُد من وجودها كي يتحقق الإرث وهي:الوارث والمورث والتركة. وهناك ثلاثة حقوق متعلقة بالتركة هي تجهيز الميت بغسله وتكفينه، ثم قضاء الدين الواجب عليه، وأخيرًا تنفيذ الوصية.

فتكون البداية بالزواج وتكوين الأسرة الصالحة المتماسكة لأنها أساس المجتمع وثباته واستقراره وسبب سعادته، ثم يرزق الله الزوجين الذرية الصالحة، ويكبر الأبناء وتبدأ وقائع وأحداث بين الآباء والأمهات مع الأبناء، وتحدث الخلافات بينهم والمشادات والمشاحنات بسبب ميل بعض الآباء والأمهات لأحد الأبناء أو البنات وبسبب تقديم العطايا والهدايا لبعضهم دون البعض الآخر.

الأسرة هنا في أشد الحاجة إلى غرس القيم والأخلاق بين الأبناء وتحقيق العدالة بينهم والمساواة وإظهار الحب والود للجميع دون تفرقة أو تمييز بين أحد منهم عن الآخر؛ لأن مثل هذه الحالات إن حدثت سوف تؤثر تأثيرًا بالغًا على الأولاد وتنكأ جرحًا في جسد الأسرة وتظهر بينهم الغيرة والأحقاد، وإن لم تظهر في حياة الأب والأم، فإنها لا محالة ستظهر بعد وفاتهما وعند قسمة الميراث.

وهكذا تستمر الحياة الأسرية ويكبر الوالدان ويبلغان من العمر عتيًا، ويمرض الأب وتبدأ تحركات بعض الأبناء والبنات بكل دهاء ومكر، ويتواصلون ليل نهار مع والدتهم ويؤثرون عليها وعلى مشاعرها وأحاسيسها، وبدورها تؤثر على زوجها الذي قضت معه سنوات طوال، وبهذا التأثير يبدأ الأب المريض بتوزيع بعض ممتلكاته من الأراضي والأموال على بعض أبنائه وبناته، بناء على رغبتهم، دون النظر بعين الاعتبار بأن لهم إخوة وأخوات آخرين مستحقين بحكم مبادئ الإنصاف والمساواة والعدل بين الأخوة والأخوات الأشقاء.

وتشاء الأقدار ويرحل الأب عن الدنيا إلى رحمة الله، ويترك للورثة تركة لتقسيمها بينهم، ولكن سرعان ما تظهر الاختلافات والمشاكل والمشاحنات وتقع من عدة جهات على الأسرة التي كانت تعيش في أمن وأمان ومودة ووئام وسلام، أسرة متماسكة ويضرب بها الأمثال، حتى أصبحت في حالة يُرثى لها.

لقد فرَّق الميراث بين الإخوة والأخوات وبدأت الحرب بينهم تشتعل وتظهر الأحقاد المدفونة بسبب عدم المساواة والعدل بين الأبناء منذ سنوات الطفولة والشباب، ورغم محاولات العقلاء من أفراد هذه الأسرة أو تلك لتسوية الأمر ووضع الحلول المناسبة وقسمة الميراث بين الورثة قسمة رضائية ووفق الشرع، ولكن يظهر من لا يريد لهذه الأسرة الخير وربما يكون أخاً أو أختاً أكبر ويتحالف معهم من الورثة ضعاف العقول والحمقى ومن مات ضميره، وتعقد الاجتماعات فيما بينهم ويتم وضع خطط غايتهم فيها تحقيق مصالحهم الشخصية على حساب إضرار إخوة لهم وتشويه سمعة أسرة كانت لها مكانة طيبة كريمة في المجتمع.

ويتحقق لهم مرادهم بتمزيق وتفريق وتشتيت وتدمير أسرة كانت متماسكة مترابطة قوية، ولا تتوقف مخططاتهم؛ بل تتطور من وقت إلى آخر، وتتفاجأ الأسرة بأن أحد الورثة الحمقى بتخطيط من الأخ الأكبر قد قدم شكوى إلى القضاء، وتحضر الأسرة بأكملها (الأخوة والأخوات والأم معهم) في ساحات المحاكم ولعدة جلسات حتى ينطق القاضي بحكمه الإبتدائي العادل لينصف الجميع. لكن لغطرسة وكبرياء هؤلاء على الأسرة وعلى أشقائهم يقومون باستئناف الحكم ويستمرون في صب الزيت على النار، وتبدأ جلسات الاستئناف وتحضر الأسرة بأكملها وجميع الحضور يتعجبون ويستغربون من تصرف هؤلاء الورثة، وكيف وصل بهم الحال إلى ساحات المحاكم، وتتصاعد الخلافات والمشاحنات والمصادمات وتحدث القطيعة بين الأخوة والأخوات؛ الأمر الذي بحدوثه تتفكك وتشتت وتتدمر أسر بأسرها لأسباب لا قيمة لها مقارنة برابطة الأخوة المقدسة.

احذروا أيها الورثة أن تفتحوا المجال لمن يرغب في تحقيق أهوائه ورغباته المريضة وأفكاره الهدامة لتدمير أسرة، وأرجو من الأمهات عدم الوقوف مع طرف ضد طرف،لأن هؤلاء كلهم أبناء لكم، وكما تعلمون بأن الإرث هدية من الله- عز وجل- ارتضاها لعباده من مال مورثهم، ويتوجب أن تكون القسمة عادلة منصفة بحكم الشرع دون ضرر ولا ضرار لأنها حقوق للورثة، وهي فرائض قد فرضها الله ويتوجب تطبيقها وفق الشرع.

ولا يتم تقسيم التركة إلا برضا جميع الورثة، ولا يجبر أحد منهم على أي قسمة معينة، فإن رفض بعض الورثة القسمة المطروحة وطالب مثلًا ببيع العقار، يتم بيع العقار والثمن يقسم على الورثة حسب الأنصبة الشرعية التي حددها الله تعالى لكل وارث منهم،وقسمة التراضي خير لأنها تتم بموافقة جميع الورثة.

وإنني لأناشد كل أخ وأخت بالتسامح والتنازل عن بعض الحقوق، وكف الأذى، فمن عفا وأصلح فأجره على الله، واتقوا الله وأعيدوا حقوق كل وارث. والظلم عندما يقع من ذوي القربى يكون صعبًا مؤلمًا، ويقول الشاعر في وصف ذلك: "وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهندِ".

إن ظلم ذوي القربى شديد الألم وفي زماننا هذا انتشر بين الأقارب الخصام وقطع صلة الأرحام،والكثير من القضايا والدعاوي الآن منظورة أمام القضاء، والتخاصم والتنازع في أروقة المحاكم بين أفراد الأسرة الواحدة،فيكون الشاكي أخ أو أخت والمشكو منه أخ أو أخت.

كلمات بسيطة أبعثها إلى كل فرد من أفراد الأسرة، بأن اتقوا الله ولا تظلموا أرحامكم، ولا تأكلوا حقوقهم ولا تؤذوهم؛ لأن هذه الأفعال تغضب الله، والله يمهل ولا يهمل، ولا تظلموا كذلك أبناءكم وبناتكم؛ فالعدل مطلب يتوجب تحقيقه دون تمييز بين ذكر أو أنثى، ونظام الإرث يفرض أن تحققوا العدل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابي بشير عندما أراد أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عطية لولده النعمان، فقال له رسول الله: "أكلهم أعطيت مثلما أعطيت النعمان، قال لا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تُشهدني على جور".

إنني ناصح لكل أسرة من الآباء والأمهات والأبناء والبنات؛ لأن الأحداث والوقائع في الإختلافات عند قسمة الميراث يدمي لها القلب وتوجع لأنها تحدث بين إخوة وأخوات أشقاء، وتقع بعد وفاة رب الأسرة مباشرة. وأرجو أن تحقق الرسالة المرجو والمنشود منها وأن تلامس كلماتها أفراد المجتمع لأخذ العبر والموعظة وتذكير القلوب الغافلة، وتحقيق قيم العدل والمساواة والإنصاف، وذلك بالرجوع إلى الحكمة والبصيرة وتطبيق فرائض الله التي فرضها على الناس في نظام الميراث العادل.

** محامٍ ومستشار قانوني

تعليق عبر الفيس بوك