ماجد المرهون
يُخيل لنا أحيانًا أن بعض الصراعات خُلقت لتعيش إلى الأبد مع أنها ليست كذلك، ولكن لما تُسهم به أقواس الخلاف من رشقاتٍ في مرماها لن تنتهي ما بقي الإنسان مفكرًا ومتفاعلًا مع وسطه ومحيطه، وبما أن مواضيع الاتفاق ومواضع الالتقاء واسعة كالبحر، إلا أن مضائق الخلاف هي الأوفر حظًا وهي المحفز البشري على ممارسة الجدال وهي المغذي الرئيس لاستمرار البحث بين إتقان الإثبات والدحض في العلوم الإنسانية والنتيجة هي القاعدة الذهبية، أو إتقان التشكيك والتثبيط عند الألحنِ قولًا فتتعذر هنا القاعدة الذهبية عندما تلمع فضةِ الكلام، كالخلاف في وجهات النظر مبتدءًا وما قد ينجم عنه لاحقًا، وموافقة الآراء ورفضها أو الخلاف الأزلي حول النشأة والتكوين وبداية الخلق والذي يتنافس حوله العلماء والفلاسفة والمفكرون في الأبحاث التجريبية المتراكمة على القواعد العلمية السابقة والمحدثة والأفكار التأملية المبنية على المشاهدة والاعتقاد والقواعد الإيمانية التي يخيل للبعض أنها من الموانع التي يجب أن تحد من عملية البحث والتأمل والتفكر عند الوصول إلى نقطة تنبيه لايجب التساؤل عن ماهيتها وما قبلها وهو إنذار من الخطر تجاهل إشارته.
وبما أننا رمينا سهمًا بعيدًا في ضالةِ الحكمةِ المنشودةَ والتي يجب أن تتوفر في العمل والقول، فلا بأس من سهم آخر عن قرب فنصيبها في مغنم؛ وقد عرَّفتِ العرب الحكمة بالإتقان كما أن لها الكثير من التعريفات ومعظمها قريبٌ من بعضه، وأهمها إحكام الصنعة والقدرة على التفريق بين وسواس النفس والإلهام الفطري وذلك بمنعها من الوقوع في مغبة ما يؤخذ عليها ويحسب ضدها إلى ما يسمو بها إلى صفيح الرفعة والرقي؛ كما قُسمت الحكمة إلى علمية نظرية وعملية تطبيقية، فالأولى هي الإلٰهيات والعلوم والطبيعيات والثانيةُ هي الأخلاق والسياسة والاقتصاد.
يقول الإنجليز: "شكسبير يمثل الإلهام الفطري وصمويل جونسون يمثل إحكام الصنعة".
قد تتقابلُ النقائض على سبيل التمييز والتفريق كالصمت والكلام ولكن لا يلتقي النقيضان واقعيًا بأي حال من الأحوال أو على الأقل في عالمنا المدرك وليس العالم ما دون الذري، كالحِلم والحمق والإقدام والخذلان والشجاعة والجبن والجود والبخل والإنفاق والتقتير، ومابين كل نقيضين خطوطٍ وهميةٍ يدركها الكثير وحقيقية لا يدركها إلا من أوتي الحكمة؛ إذًا الحكمة هي التي قد تجمع خيوط النقائض وهي القادرة على التفريق بينها.
إن العالم الافتراضي الذي يعصف بنا له أصل واقعي وموجود سواء أدركته أو لم تدركه ولكن مايوسع الفتق على الراتق هو الحالة الشبحية للأشخاص، ومع تطور وسائل التواصل إلى ما وصلنا له اليوم وفي متابعاتنا للنقاشات التي تكاد تحدث يوميًا، يدور في أحد أبعادِه نقاشٌ بين شخصين أو أكثر حول موضوعٍ خلافي سطحي قلما يتفق عليه وكان من الحكمة أن لا يقع في محور الحديث إلا أنه وقع وماله من دافع فيتابعه جمهور غفير يتمتع بميزة التواجد الفوري والمباشر في مثل هذه الأحداث، وبات هذا الأمر شبه تقليدي بحكم التقنيات ومنافعها المتاحة للجميع.
نشاهد التفاعل بين مدٍ وجزر وأحيانًا الانفعال الذي يتحكم به مستوى الشعبية ومعارف الأطراف المشاركة ذات الصلة، إضافة لميولٍ عاطفية أو اجتماعية أو حتى وطنية والكل متابع، فيتدخل الحكيم بعد أن لاح في الأفق مضيق الخلاف فيقول "طف الكيل ولم يبقَ في قوس الصبر من منزع" ولكن مع لغته الخشبية لا يباليه في حدة احتدام المنافسة أحد، وفي موج يمور تحت قارب المتجادلين يرد أحدهم باقتضاب "نحن لم نختلف"؛ وهو يقصد من ناحية المبدأ وهم في حقيقة الأمر قد وصلوا الى مرحلة الخلاف وربما جاوزوها ولكن الصورة الجامدة للخارطة مضمنة في إطار وجهات النظر فقط لاغير ولا أكثر ولا أقل ولا دونه ولا عنه ووو إلخ، المتابعون يعرفون جيدًا نتيجة التجاذبات وقوانينها المغناطيسية في هذه الحالات ويستقرؤون الوجهة النهائية بحسب مؤشر البوصلة.
عند هذا المستوى تبدأ عملية إنحراف المسار وفرض الرأي تسيُد الموقف، حيث يسوق المختلفون الأدلة والحجج والبراهين ليدمغ أحدهما الآخر فيبهته فإذا هو زاهق، ولاشك أن للانتصار شعور رائع على عكس نقيضه الهزيمة، فيتدخل طرفٌ جديد ليثني على رأي أحد الخصمين وطرف آخر ضد وكل ذلك ولازال "الكل متابع" بصمت وترقب وحذر وفي داخل كل واحد منهم تحيز لطرفٍ أو موضوع أو فكرةٍ ولكن حكمةٌ ما تمنعهم من المشاركة أو الإدلاء برأيٍ.
ومع دفقات هرمون الغضب ومغادرة وجهة النظر ميدان الوطيس يصل تطور الأمر الى درجة "الشخصنة" فيُنسى الموضوع الأصلي للنقاش وتضيق مصارف الاتفاق وتجد الحكمة لنفسها بابًا واسعًا فتخرج منه لتبدأ الطعون التي لا تفرغ من توليد كلمة خلافية في كل طرحِ لتغذي رحى الخلاف بين الأطراف بالنفاذ من الشقوق المجهرية للكرامة وعزة النفس فتوسعها نعتًا بالجهل وقلة المعرفة وعدم الإلمام ثم التنبيه والتحذير وربما إلى مستويات أكبر وأبعد، والكل يحب أن يعتقد أن الأمور تسير على مايرام ولكنها ليست كذلك، وحماس المتابعين يزداد والحال كالذي يشاهد لعبةً بكل بساطة ولا يفهم شعور اللاعبين.
انتهت المنافسة بهزيمة المختلفين ويبقى هناك شيء في النفوس وشيء في نفس المتابع لا يعلم ماهو وشيء في نفسي لا أعرف تفسيره، وللتذكير: كانت البداية اختلاف في وجهة النظر وانتهى بها المطاف هربًا.