علي بن سالم كفيتان
بات ما يقرب من 3 ملايين إنسان في عنق الزجاجة، يتسابقون للخروج من ذلك الممر الضيق؛ لينطلقوا إلى عالم آخر بعيدًا عن سكن الزجاجة، فلا خيار سوى العبور أو الاختناق، ويمكننا القول إنها حالة ولادة جديدة؛ حيث باتت الغالبية العظمى يتطلعون لفضاءات أرحب ليروا ما كان غائبًا عنهم وهم في رحم الزجاجة، ولا يوجد ممر سوى ذلك العنق الضيق.
ولطالما صاحب البكاء الانسان منذ الوهلة الأولى للولادة ولم يكتشف العلماء بعد سبب البكاء الهستيري للمواليد؛ ففي الخارج استقبال حميم واحتفالات لا تنتهي.. فهل هو الخوف من التغيير؟ أم الرغبة في العيش بهدوء لا متناهٍ في عالم الأرحام؟ بينما في الممر وصلت القلوب الحناجر، فهناك من نفذ برأسه مُبشرًا بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وهناك من لا يزال يصارع، وهناك من سقط مغشيًا عليه في قاع الزجاجة يندب حظه العاثر للحاق بالركب.
البعض ما زال لم يعترف بأن الإنسان وصل إلى القمر رغم مرور أكثر من نصف قرن على ذلك، ولو ناقشته بالحجج والبراهين وأخذته في مركبة فضائية إلى هناك سيرد عليك بأنها خدعة بصرية. قابلت أحد هؤلاء صدفةً في مقهى اعتدت الجلوس فيه نهاية الأسبوع أحيانًا ولوقت قصير، لا توجد بيننا سابق معرفة. جلس إلى جانبي وحدثني باستفاضة عن أفكار قديمة جدًا يظهر فيها أنه هو وجده وجماعته الأولون وكأنهم فاتحون أحد الثغور. تجرعت قهوتي وأن أُصغي بمللٍ، حتى انتهى بعد قرابة الساعة من خطبته تلك. اكتشفت أن الرجل التهم قطعتين من الكيك وثلاثة أكواب من القهوة، ثم طلب الرابع! وقال لي بكل هدوء: "ما عطيتنا رأيك كاتبنا"، فقلت له لا أملك رأياً في هذه السيرة العطرة، لكن... أنت ماذا فعلت؟ في هذه اللحظة نظر في هاتفه وقال لي هذه أم العيال وترك لي فاتورته التي لا تمت بصلة لسيرة آبائه وأجداده التي سردها عليّ ذلك المساء. فهذه الفئة تقبع في قاع الزجاجة ولا تعلم ما يجري.
في أحد المساءات الجميلة في ظفار بعد هطول المطر، تعودتُ أن أتجوَّل في الجبال عليَّ أصادف سحابة ماطرة؛ فمراقبة المطر في الصيف مُتعة لم نألفها؛ أي متابعة المطر مع الشمس، فأنخت ركابي في مطعم بإحدى القمم، قيل لي إن الشاي هناك غير، مع إطلالة عظيمة على السهل الفسيح، الذي يضم حواضر ظفار. والحقيقة أن المكان أسطوري، لكنه بات من الداخل كمعسر قديم. وعند وصولي وجدتُ طاولة عامرة ممن أعرف وممن لا أعرف، فجلست مع هذ الجمع الخليط، ودار الحديث حول قانون الحماية الاجتماعية. الكل يرغب في معرفة رأيي في الحقيقة، ولمست من حوارهم قراءة مختلفة للحدث، فهم يرون فيه الكثير من الفرص التي لم تكن متاحة في السابق، ويُثنون عليه كسابقةٍ في دول المنطقة، من حيث وجوده كتشريع، وليس منحة أو هبة. نقلوا في حديثهم تحفُّز من وصل الستين، ولم يحصل على راتب من الحكومة طوال حياته، وخاصةً النساء، وآمال المتقاعدين بتحريك رواتبهم الجامدة مع وجود علاوات دورية، وأحاديث عن اللمسة الحانية تجاه ذوي الاحتياجات الخاصة، واستحقاقات الطفولة.
أخذني هذا الجو الإيجابي وخضنا في حوار جميل، كنتُ بحاجة إليه فعلًا، وتوقعنا أن تعديلات مجلسي الشورى والدولة ستتطابق للإسراع بتطبيق المعونة الاجتماعية للباحثين عن عمل وربات البيوت غير العاملات، بحيث تصدر وتُنفّذ مع اعتماد القانون، فهذا بلا شك سيخلق ارتياحًا عميقًا لدى الناس. فعلمتُ أن هذه المجموعة قد أطلت من عنق الزجاجة على الفضاءات الفسيحة وأحسنت الظن كما ينبغي.
بينما مواقع التواصل الاجتماعي تعُج بتفسيرات سلبية للغاية؛ فهناك من يرى نظرية عنق الزجاجة بأنها مُصطنعة وليست موجودة في الأصل؛ بل أُدخل الناس إليها عنوةً، فمنهم من بات يستجيبُ لها بشكل لا إرادي، ومنهم من يرفضها، ويرى فيها التلويح بعدم منحه أي مستحقات، لإجباره على القبول بالفتات، وهذه الفئة هي الأشد مقاومة للتغيير؛ حيث وصلوا لعنق الزجاجة لكنهم باتوا راغبين في العودة إلى رحمها الدافئ، وفي الطريق يجرُّون معهم بعض الطامحين لبلوغ النهاية ويزدادون ككرة الثلج التي قد تُدمّر المتقوقعين في الأسفل، وفي النهاية من استطاع قراءة الواقع كما هو اليوم، هو من يستطيع الخروج من عنق الزجاجة ويكون من الناجين... وحفظ الله بلادي.