انهيار القيم عامل لسقوط الأمم (2)

 

د. قاسم بن محمد الصالحي

 

لا يُمكن لأحد أن ينكر دور الأخلاق في تكوين شخصية الإنسان السوية والرقي بالمجتمع إنسانيًا، والأمم تتعرّض للسقوط بسبب انهيار القيم والشلل العلمي، أن يكون هذا الزمن متطورًا ماديًا في التقنية والتكنولوجيا والصناعة لا يعني أنه كذلك في الأخلاق والقيم.

وقد شبّه بنيامين فريدمان، الخبير الاقتصادي السياسي، ذات مرة المجتمع الغربي بالدراجة الثابتة التي يُسيّر عجلاتها النمو الاقتصادي، فإذا ما تباطأت هذه الحركة الدافعة إلى الأمام أو توقفت، ستهتز ركائز المجتمع، مثل الديموقراطية والحريات الفردية والتسامح وقبول الآخر، وغيرها، ويغدو العالم مكانا كئيبا، يتنازع فيه الناس على الموارد المحدودة ويرفضون كل من لا ينتمي إلى جماعتهم، ولو لم نستطع إعادة الحركة إلى العجلات، سينهار المجتمع برمته.

هذا التباين الحاصل مؤشر واضح على وجود خلل في تركيبة الإنسان المعاصر، بل هو دليل قاطع على حالة الانحدار السريع نحو تلاشي القيم الأخلاقية وضمور الحس الإنساني، لأن أصل الصلاح البشري ليس بلوغ التطور المادي وإنما التوفر على فكر سليم وروح نقية وقيم نبيلة، وفي حال غياب ذلك أمام الاستفحال المادي الواقع في عصرنا فإنَّ الانحدار الأخلاقي حتمي وسيكون مصير البشرية الذي لا مفر منه.

وطالما انهارت مجتمعات على مر التاريخ، ولم تخل حضارة، وإن بدت في ظاهرها قوية، من مواطن الضعف التي قد تدفع بالمجتمع إلى الهاوية، بذلك تتحول من فتية قوية إلى عالة على غيرها؛ يعيش كلُّ فرد في كل أمة همّه الفردي في الطعام واللباس والمسكن، ومن ثمَّ تتحوّل إلى أمة ميتة، هي في شكلها العام حية، لكن حقيقتها أنّها ميتة، وحالها كحال أمة نبي الله سليمان عندما مات، لكنه ظل متكئًا على عصاه ومَنْ حوله يعملون وهم يعتقدون أن نبي الله سليمان حي، ولكنه نائم على عصاه ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ (سبأ: 14).

هكذا حال كلّ أمة ميتة؛ قد تبقى زمنًا من دون أن تسقط؛ لأنّها تتكئ على الأجهزة التي صنعتها، فيخيل للرَّازحين تحت ظلمها أنّها حية قائمة، فإذا بعث الله عليها عناصر مقاومة من الداخل، أو قوة غازية من الخارج، تأكل منسأتها؛ فتخرُّ ساقطةً، وحينئذ، يتبيَّن الرازحون تحت ظلمها أنّهم لو كانوا يعلمون الغيب، ما لبثوا في العذاب المهين.

وللسقوط عوامل، منها، أفكارًا هدامة حاولت وتحاول غزو القيم بتفريغها من مضامينها تارة، وبقلب معانيها تارة أخرى ساعية جهدها إلى تحطيم القيم واختراقها، وضربها، وتفتيتها، وزعزعتها، وتشويهها، وتمييعها، فإذا أردت أن تهدم الفرد الذي هو أساس المجتمع اضرب القيم التي يحملها، وإذا أردت أن تزعزع أمة فشوه قيمها، فعدم وجود قيم ولا عدالة اجتماعية بين الناس، وإخفاق في محاولات الإصلاح بسبب كثرة الفساد، ومحاولة غزو الشعوب بشتى الطرق والمبررات للسيطرة على الثروات والمقدرات، دون الأخذ في الاعتبار بالتراث الحضاري للشعوب، سيكون الأغنياء في ترف ليس له نهاية، بينما الفقراء يكدون من أجل إسكات أنين بطونهم.

من البديهي التوقع من العدو كلّ خبث وكيد وتخطيط موجَّه، إلا أن السيطرة على العدو تكمن في تطهير الداخل من أخلاقيات الضعف والخوف، وممارسات الانعزال في دائرة الهموم الفردية، التي تمهد لقبول الاستعباد والخضوع، فقوة الفرد والمجتمع والأمة بقوة تمسكهم بالقيم التي يحملونها في واقعهم ويتعايشون معها، فالقيم ليست ترفًا ولا من نافلة الأحاديث ولا من المكملات الفردية أو المجتمعية أو الأمة، كما أن التحضر ليس وضعًا مجبولًا في فطرة الإنسان، وإنما هو وضع كسبي يستحدثه الإنسان وفق عوامل ذاتية وموضوعية تُفضي إليه، وبما أن الحضارة هي أعظم إنجاز بشري، كان لابد من معالجة مشاكل الحضارة وسنن، وجودها، وحركتها، وتطورها، فهناك علل حقيقية تقف وراء سقوط الأمم، إضافة إلى التجارب- الفاشلة المهاجرة- التي أودت بالأمم وأدت بها إلى مزيد من الانتكاسات المريرة وخيبات الأمل وفقدان الثقة.

الشاهد على ذلك في حياتنا المعاصرة، أنَّ كمية انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، الناجمة عن أنشطة أعلى عشرة في المئة من المستثمرين في العالم تعادل ما ينتجه 90 في المئة من سكان العالم مجتمعين من انبعاثات، وبالمثل، يعيش نحو نصف سكان العالم على أقل من ثلاث دولارات يوميا، يقول رئيس الأنظمة العالمية للشؤون الدولية بجامعة "واتر لو" في كندا ومؤلف كتاب "الجانب الإيجابي للسقوط"، إن انهيار المجتمع شأن الكثير من المجتمعات التي انهارت على مر التاريخ، كان محصلة لعدة عوامل مجتمعة- الضغوط التراكمية- لأنها تتجمع بهدوء ثم تنفجر فجأة لتثقل كاهل أي آليات تحافظ على استقرار المجتمع وتماسكه.

إلا أن الأزمة الحضارية لا تُجلى حقيقة مشكلاتها التي أدت إلى السقوط والانهيار، فإشكالياتها الحقيقية خفية تتبعثر بين علل مجتمعية، وعلل نفسية، وأخرى سياسية، ولا بد من صياغة قانون للتخلق الحضاري، لتحقيق تقدم غير مشروط يلغي كل تلك العوامل الداعمة للسقوط وللانهيار الإنساني وملابسات الانحطاط، وبوادر انهيار الحضارة الغربية ليس أمرًا مفروغًا منه، فبإمكان المجتمعات الإنسانية أن تتقدم إلى أعلى مستويات الرفاهية والتطور، لو أنها احتكمت إلى العقل والقانون قبل إصدار القرارات، واتبعت أساليب استثنائية في إدارة البلاد مع تمسكها بالقيم المعنوية والعلاقات الودية.

وعلى هذا الأساس، فإن عوامل قيام وسقوط الأمم والحضارات تكمن في صميم الموقف البشري نفسه لا في الطبيعة والعلاقات المادية، في إطار الإرادة الإنسانية، وأداء دوره الحضاري فيها، ومن ثم فإن أسباب تحضر المجتمع وأسباب تأخره وانحطاطه تعود لقيم الإنسان نفسه، وقد اعتاد البشر أن يقيسوا جانب التطور الحضاري بالكم، بينما يصير كثير من علماء الحضارة على استخدام المقياس الأخلاقي والنفسي، للوعي بمخاطر القصور في هذا الجانب، إذ إنه سبب التأخر والخمود والسقوط الحضاري، ولابد من الغوص في الظواهر الاجتماعية، فحياتنا اليوم متلهفة لكل ما من شأنه أن ينتشل البشرية من السقوط والانهيار، لأننا أضعنا سبيلنا، وغفلنا عن مخزون طاقتنا القيمية، وشلت الحروب والمحن حركتنا، فتناسينا أن الإرادة والفكرة الدينية سبب نهضتنا الإنسانية الحضارية، وأن بقاء الأمم مرهون بتخلقنا الحضاري وبصلاحنا الداخلي أولا ثم خارجيًا بعد ذلك، وسقوط الأمم وفناؤها مرهون بفساد نفوسها أولًا ثم بفساد أعمالها بعد ذلك.

ومن هنا تظهر أهمية تبني الأمم استراتيجية قوية للتخلق بخلق الحضارة والتخلص من أسباب السقوط والانهيار التي هي أول الخطوات الإيجابية للبشرية والتي تمر بمرحلة تعاني فيها من مشكلات متعددة، والاتجاه للنهوض الحضاري والأخذ بالسنن الإلهية لبناء الحضارة الإنسانية الحقة، فالحضارة الإنسانية على أهميتها فعل إنساني ولها سنن كونية قابلة للتسخير والتحليل والفهم، وعلاقتها وطيدة بالمتغير البشري، وابلغ إعجاز تاريخي في القرآن الكريم "سورة الفجر"، ومن أبلغ جوانب الإعجاز فيها ذكر 3 من طواغيت التاريخ القديم هم قوم عاد، ومدينتهم "إرم ذات العماد"، وقوم ثمود الذين وصفتهم الآيات الكريمة بأنهم هم "الذين جابوا الصخر بالواد"، "وفرعون ذي الأوتاد"، وهذه الأمم كانت قد بادت لكونها أسقطت كل السنن الإلهية وتمردت وعتت وتجبرت، فكان الجزاء الإلهي لها الاندثار من على وجه الأرض، وتفترض القيم الأخلاقية ذواتًا تقع على أفعالها الأحكام والتقييمات وتُخاطَب بالواجبات والتكاليف.

لذا كانت معرفة منزلة الذات الأخلاقية أو الفاعل الأخلاقي، في دين أو مذهب أو فلسفة ما، لا تقل أهمية عن معرفة تصور هذا الدين أو المذهب للقيم الأخلاقية نفسها، بل لعل منزلة الفاعل الأخلاقي هي نفسها قيمة من القيم "يُعرف المجتمع من القيم التي يحملها في واقعه وهي عنوانه الواضح الذي تدل عليه".

تعليق عبر الفيس بوك