مُعضلة التمويل.. إلى أين تسير البنوك وشركات التمويل؟

 

 

 

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

يطرحُ مقالنا اليوم إجابةً على أحد الأسئلة التي تتبادر إلى أذهان الكثير من المُتابعين للشأن الاقتصادي المحلي، واستفسارهم المُستمر عن أسباب تباطؤ الحراك التجاري والاقتصادي، خاصة وأنَّ عُمان باتت تحتاج لنموٍ اقتصادي وفق هيكلة جديدة بعيدة عن النفط، هيكلةٌ تقوم على تنفيذ مشاريع إنتاجية وصناعية وخدمية، قادرة على خلق فرص عمل، وجلب العملة الأجنبية الماهرة، ورفد ميزانية الدولة بالإيرادات اللازمة لتعزيز الإنفاق التنموي والرأسمالي.

البعض يعزو هذا التباطؤ إلى أسباب تتعلق ببيروقراطية العمل الحكومي، والحديث عن صغر حجم السوق، إلى جانب تراجع أعداد الطبقة الوسطى في المُجتمع نتيجة العديد من المُتغيرات وعلى رأسها التضخم والضرائب وانخفاض الدخول. ورغم عدم إنكار هذه الأسباب، لكن ثمَّة أسباب أخرى أعمق وأشمل ترتبط بأسس وأبجديات التنمية الاقتصادية.

من وجهة نظري، السبب الاقتصادي الرئيسي والأهم يتمثل في ضعف الاستثمار بشقيه المحلي والأجنبي، وهذا الضعف مرتبط بمحدودية التمويل وارتفاع تكلفة الإقراض؛ بل والأهم صعوبة اشتراطاته. ويخطئ من يعتقد أنَّ الاستثمار في أي قطاع يمكن أن يعمل بمعزلٍ عن التمويل، والذي يصل أحيانًا إلى 80% من تكلفة المشروع؛ إذ بدون تمويل لن يتحقق الاستثمار، وبدون استثمار لن نُؤسس المشاريع، وبدون مشاريع لن نجد الوظائف، وبدون الوظائف لن يحصل الفرد على الدخل الذي يحتاجه، وبدون هذا الدخل لن تتحقق الحياة الكريمة التي يحلم بها كل مواطن، وتسعى إليها الحكومة... وهذه أبجديات الاقتصاد لمن أراد أن يفهمها!

وينبع حرصنا على تناول هذه المواضيع الشائكة، ليس من باب التشكيك وإنما حرصًا على استعراضها بموضوعية وتجرّد، واقتراح بعض الأفكار والمعالجات التي ترمي إلى تحقيق مصلحة الدولة والمواطن، فهناك الكثير من الأفراد والأسر والشركات تترقب تحوّلًا اقتصاديًا مُستدامًا يرفع من مستوى معيشة المواطنين وبزيد من قوة اقتصادنا الوطني، خاصة وأن قطار التنمية- بحمدلله- منطلق في مساره، لكننا نأمل ألّا يترك أحدًا وراءه.

وعندما نتحدث عن معضلة التمويل وتحديات الإقراض واشتراطاته الصعبة جدًا، يتضح لنا أن عُمان تعد الدولة الأعلى تكلفةً في الحصول على تمويل على مستوى المنطقة، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال العديد من التقارير والمؤشرات المحلية والدولية؛ حيث يُشير التقرير الأخير لممارسة الأعمال الصادر عن البنك الدولي إلى أنَّ أكبر عوائق ممارسة الأعمال في سلطنة عُمان، الحصول على تمويل، وهذه حقيقة يؤكدها أصحاب الشركات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، إضافة إلى الاشتراطات الصعبة للحصول على قرض، سواء في صورة طلب رهونات أو ضمانات شخصية وغيرها.

هذه التكلفة المرتفعة في التمويل، تقابلها أرباح ضخمة تحققها جميع المؤسسات المالية؛ إذ تستفيد مؤسسات التمويل بطريقة عكسية من حاجات المتعاملين؛ بل ومن الأزمات. وخير مثال على ذلك، التدخلات المحدودة لهذه المؤسسات، والدور الخجول لها أثناء توقف الأنشطة التجارية جراء جائحة كورونا، حيث لم تبذل جهودًا كبيرة لانتشال المتعاملين من الأفراد والشركات الذين تضررت أعمالهم من الجائحة؛ فقد قامت البنوك إما برفع قضايا على المُعسرين أو إعادة هيكلة أو تأجيل السداد بفوائد إضافية مُضاعفة لعدة مرات! فاستفادت منها البنوك وشركات التمويل دون دفع ريال واحد إضافي للعميل، ولنا أن نتخيل حجم المعاناة التي يُعانيها الأفراد وأصحاب الأعمال غير القادرين على دفع الأقساط البنكية المُعتادة بفوائدها، فكيف لهم أن يتمكنوا من دفعها مُضافًا لها فوائد تأجيل باهظة.. هل هذا هروب إلى الأمام وتأجيل لمشاكل مالية أعمق في المستقبل المنظور؟!

ومع تضخم أرباح البنوك التجارية وشركات التمويل خلال السنوات الأخيرة، يئن عملاؤها تحت وطأة التكلفة المرتفعة جدًا للتمويل، فضلًا عن الضغوط المالية الصعبة، فإن سؤالًا آخر يطرح نفسه: لماذا لا تستطيع مؤسسات القطاع المصرفي المحلي العمل خارج السلطنة وتحقيق أرباح مُماثلة في الخارج؟ بل إنها إذا خرجت سرعان ما تغلق فروعها الخارجية وتعود محملة بالخسائر؟!

وهناك العديد من الممارسات التي تسعى من خلالها المؤسسات المصرفية لتعظيم أرباحها دون إعطاء إيضاحات كافية للعملاء، من بينها تأجيل الأقساط في المناسبات والأعياد، والابتكار في استقطاعات من حسابات العملاء دون مبررات واضحة أو على الأقل منطقية.

وعندما نُمعن البحث والتدقيق في واقع القطاع المصرفي، يتضح أن هذا القطاع يعاني من خصائص لا تتواءم مع احتياجات التنمية في المرحلة المقبلة، والتي تستدعي بصورة حتميّة زيادة الاستثمار- عبر التمويل- في الفرص المتوفرة في كل القطاعات؛ فالبنوك التجارية وشركات التمويل العُمانية هي الأصغر في منطقة الخليج، وتكلفة الفائدة على القروض هي الأعلى إقليميًا؛ إذ تصل إلى 16% في شركات التمويل و8% في البنوك. وهنا نتساءل باندهاش: إذا كانت هذه تكلفة التمويل، فكم يجب أن تكون ربحية الأعمال كي تتمكن من دفع هذه التكلفة وتحقيق أرباح؟!

كذلك هناك بنك واحد يسيطر على 41% من إجمالي الأصول المصرفية، ويستحوذ على 49% من صافي الأرباح.

جزء آخر من هذا التشوّه، يتمثل في تركُّز نوعية الائتمان المُقدم للأغراض الشخصية والاستهلاكية؛ فالقروض الشخصية بمفرها تستحوذ (وفق إحصائيات 2021) على ما يقارب 40% من إجمالي الائتمان المصرفي، بينما حصة التمويل المقدم للشركات الصغيرة والمتوسطة ما زالت في حدود 3.5% من إجمالي المحفظة الإقراضية، في تناقض واضح مع توجهات التنمية والتعميم الصادر من البنك المركزي العُماني منذ 2011، والقاضي بإلزامية وصول هذه النسبة إلى 5%.

واحدة من التحديات المُقلقة أيضًا في القطاع المصرفي، أن البنوك الدولية وشركات التمويل الأجنبية لا تُفضّل دخول السوق العماني، فالإحصاءات تشير إلى أنه منذ عام 2007 لم يدخل أي بنك أو شركة تمويل دولية إلى عُمان؛ بل إن بنوكًا أجنبية تعمل في السلطنة حاليًا تبحث جديًا التخارج من السوق المصرفي العُماني، وهذا أمر يُثير علامة استفهام كبرى. أضف إلى ذلك أنه ورغم المتغيرات الاقتصادية والمصرفية على المستويين المحلي والخارجي، ما زال القانون المصرفي صامدًا لم يتغير منذ عام 2000، أي أننا نحتكم إلى مواد قانونية يقترب عمرها لنحو ربع قرن من الزمان!

ولا شك أن للمؤشرات المشار إليها، تداعيات سلبية على نمو الاقتصاد وتغيُّر هيكلته، من خلال دور القطاع المصرفي في نمو الناتج المحلي الإجمالي، وقدرته على خلق الوظائف وجذب الاستثمار الأجنبي، علاوة على التأثير الجوهري في وضع التصنيف الائتماني للسلطنة.

يهُمُني في هذا السياق أن أشير إلى إشكالية وجودية، وهي قضية أيُهما أولًا: البيضة أم الدجاجة؟! وهي إشكالية تقفز إلى السطح عندما نتحدث عن صناعة الاقتصاد، ودور مؤسسات التمويل في دعم النمو الاقتصادي، من خلال تقديم قروض منخفضة التكلفة، وفق إجراءات يسيرة واشتراطات معقولة. والحقيقة أن هذه الإشكالية قائمة في العديد من البلدان، لكن في عُمان، نعوّل كثيرًا على الدور المهم للبنك المركزي العُماني، في إعادة تنظيم القطاع المصرفي، واتخاذ ما يلزم من إجراءات لحث البنوك وشركات التمويل على تقديم التسهيلات التمويلية المطلوبة لإطلاق قطار الاستثمار والتنويع والحراك الاقتصادي. أيضًا هناك دور استراتيجي غير مُفعَّل للبنوك التجارية وشركات التمويل، ولا بُد أن تراجع قناعاتها وأساليب عملها الهادف بصورة أساسية إلى تعظيم الأرباح بغض النظر عن طبيعة التمويل وقنواته وتكلفته ودورها التنموي.

وإلى جانب دور البنك المركزي وإدارات البنوك التجارية، ثمة دور آخر- لكنه غائب- لجمعية المصارف العُمانية، في  نشر الوعي بأهمية تبني ثقافات مصرفية جديدة وتغيير الممارسات التقليدية، والتحوّل نحو مزيد من الابتكار، والعمل بكل صدق لتحقيق التوازن بين أهداف المؤسسات المالية، وأهداف الحكومة، وأهداف المتعاملين. فالقطاع المصرفي ولكي ينهض بدوره المنوط به في التنمية، يتعين على مؤسساته الموازنة بين الحرص على تحقيق أرباح يجب أن تكون وفق المتوسطات الإقليمية، بسعر فائدة يتواءم مع خطط الدولة لدعم التنويع الاقتصادي وجذب الاستثمارات، وبين تقديم مُنتج مصرفي يُلبي احتياجات العميل بشروط مُيسرة.

نعلم أن هناك توازنات صعبة بين الوصول إلى توفير رأس المال بتكلفة واشتراطات مناسبة تضمن نمو واستقرار الاقتصاد، وبين ربحية البنوك والتزامها بالمعايير الدولية، لكن هي توازنات مُمكنة في نهاية المطاف وليست مُستحيلة، تستوجب فهمًا عميقًا لكافة المُتغيرات والتطورات.

وعلى الرغم من إدراكنا الكامل بأن هذه المؤسسات المالية ليست جمعيات خيرية وأن هناك مساهمين ينتظرون أرباحهم، وتكاليف تشغيلية كبيرة، لكن كل ذلك لا يُبرر أن تتحول هذه المؤسسات إلى أداة مُعطِّلة للتنمية، فبدون دورها الاستراتيجي لن تتحقق النقلات النوعية المنشودة والتي تستوجب معالجة الفجوة الاستثمارية الكبيرة في السلطنة، من خلال ضخ المزيد من الاستثمارات وإتاحة التمويل، لأنه- وبكل صراحة- اختلال تكلفة التمويل يعني اختلال العملية برمتها.

ولذلك ونظرًا لمُعيقات التمويل وارتفاع تكلفته، وجدنا عودة نظام اقتصادي- اجتماعي، يتمثل في منظومة "الجمعيات" التي يؤسسها أفراد البيت الواحد أو الحي أو الولاية، لضمان الحصول على تمويل بصفر فائدة، ورغم أنَّ هذه الجمعيات تتعارض مع مصالح مؤسسات التمويل، إلا أنَّ هذه المؤسسات هي السبب!

ورغم ما سبق.. ما زلنا نراهن على الحس الوطني لقيادات الجهاز المصرفي ومُلاك ومُساهمي المؤسسات المالية واستيعابهم لاستحقاقات المرحلة، وأدوارهم في ترسيخ ثقافة الادخار والاستثمار والوعي المالي لدى الأُسر والشركات العُمانية، وغرس فكر جديد لدى العاملين بالبنوك مفاده أنهم صُنّاع الاقتصاد والتنمية والمستقبل، وأنهم ليسوا مُقرضين فقط، ولا بُد من التحلي بالمرونة وإطلاق برامج مُبتكرة ترفع من مُضاعِف الاستثمار وتتبنى برامج جديدة؛ كبرنامج كفالة وضمان القروض، بما يسمح بتوزيع المخاطر بين الأطراف المختلفة، ويُلبي مُتطلبات المرحلة من التمويل اللازم، فالبنوك تضخ أوكسجين التمويل المُحرك لرئة الاقتصاد.

وختامًا نقول، تحدثنا مرارًا وتكرارًا عن ضرورة إصلاح القطاع المصرفي وأهمية تغيير أدوار البنوك وشركات التمويل؛ لمواكبة احتياجات الاقتصاد، خاصة في ظل نهضتنا المُتجددة، وما تنشده من تحوّلات نوعية تمضي بنا لبلوغ أهداف "عُمان 2040"، غير أنَّ هذه التحوّلات لن تتحقق، مهما كانت النوايا طيبة، والخطط طموحة، والجهود كبيرة، فهناك أُسس وأبجديات لا يُمكن أن يستقيم بدونها بنيان التنمية، وكل الأطراف الفاعلة في المشهد الاقتصادي، ركاب في سفينة التنمية عليهم أدوار يجب تنفيذها، وكلنا يقين بأنَّ الاقتصاد العُماني يزخر بما يحتاجه من عدة وعتاد للانطلاق، لكن تظل ضرورة استيعاب المُتغيرات القضية الحاسمة، ويبقى العمل على تشغيل محركات القطاعات المختلفة بالسرعة والأدوات اللازمة، مطلب لا غنى عنه؛ بل واجب النفاذ.