د. أنور الرواس شاهدًا وشهيدًا على المشهد السياسي (2- 2)

 

د. مجدي العفيفي

(7)

يشي كتاب "المشهد السياسي العماني" بأن فكر كاتبنا الرواس يتماس مع كثير من المشتغلين بالفكر، على كافة أصعدته، وتباين مساراته، وتمايز أصواته؛ إذ لا مجال للصوت الواحد، التعددية تثرى الرؤى، والاتجاه الأحادي ولَّى، وتداخل الأصوات وتشابكها، وحتى اشتباكها سمة المجتمعات التي تستحق الحياة، وتعددية الأصوات تغني الأفكار، وتوسع الأفق، وتضيء مساحة الإظلام التي تكشفها شمعة الصوت الواحد، تلك التي وظيفتها أنها بقدر ما تنير مساحة محددة من الظلام، فإنها تكشف مدى مساحة الظلام الواسعة حولها.

انتهى عصر الصوت الواحد، وتجمد قطب الفكر الأحادي، أو يفترض ذلك أيضا، وصارت التعددية الصوتية، أكثر الوسائل التي تفسر الواقع من عدة وجهات نظر متراكبة في آن واحد، ولا تعتمد على وجهة نظر واحدة أو وحيدة، وسيجد المتلقي الكريم تداخل الأصوات، ومن عرف سر التداخل انفعلت له الأشياء.

وتأسيسا على هذا الإدراك، يستدعي كاتبنا الرواس، مقولات فكرية إشارية مكثفة، لكنها ذات سعة عالية في الدلات، إن كل مقولة هي بمثابة مقال في جملة.

من جميل اختيارات د. أنور الرواس. هذا التوافق بين مقولتين ساميتين؛ الأولى عمرها 50 عامًا في مطلع الزمن القابوسي 1970، والأخرى مع الفاصلة الثانية للعهد الجديد 2020؛ إذ يستدعي كاتبنا مقولة للسلطان قابوس بن سعيد- رحمه الله- قالها في بيانه الأول للشعب 27 يوليو 1970: «إننا نعاهدكم بأننا سنقوم بواجبنا تجاه شعب وطننا العزيز، كما أننا نأمل أن يقوم كل فرد منكم بواجبه لمساعدتنا على بناء المستقبل المزدهر السعيد المنشود لهذا الوطن». لتتواصل معها لا إراديًا مقولة للسلطان هيثم بن طارق آل سعيد، في النطق السامي 11 يناير 2020: «إنَّ الأمانة المُلقاة على عاتقنا عظيمة والمسؤوليات جسيمة، وينبغي لنا جميعا أن نعمل من أجل رفعة هذا البلد، وإعلاء شأنه، وأن نسير قدمًا نحو الارتقاء به إلى حياة أفضل، ولن يتأتى ذلك، إلا بمُساندتكم وتعاونكم، وتضافر جميع الجهود».

هذه التوافقية لا يمكن أن تكون من قبيل المصادفة، ذلكم أن ثمة ثلاثة أمور تمثل مهادا فكريا للأرضية المعرفية، التي تمتد عليها دوائر التكوين العماني العام، وتشكل في الوقت ذاته امتدادًا مركزيًا، ضمن مجموعة الثوابت العمانية، مهما كانت المتغيرات التي لا بُد من تحسبها.

أما الأمر الأول؛ فيتجلى في أن منظومة عُمان المعاصرة تتشابك خيوطها زمنيًا، إلى درجة يكاد يصعب؛ بل يستحيل الفصل بينها. والأمر الثاني يتمثل في أن خطوط المنظومة تتداخل، ولا بُد أن تتداخل، ذلك أن اللحظة التاريخية المؤثرة في حياة الأمم، محال أن تتفجر من فراغ؛ بل لا بُد لها من مخاض فكري يسبقها بإرهاصاته. أما الأمر الثالث، فإن حلقات المنظومة تتواصل باستمرار، وإن تباعدت أحيانًا، فذلك ينسجم مع معني أن الفواصل الرئيسية في الزمن، هي مناسبات تستحق الحفاوة والاحتفال، وأنها أيضا مفعمة بالدلالات الرمزية.

(8)

ثمة فاتحة قرآنية أضاء بها الدكتور أنور الرواس صفحات كتابه، تتجلى في الآية العظيمة رقم (38) من سورة الشورى: (وَٱلَّذِينَ ٱستَجَابُواْ لِرَبِّهِم وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوةَ وَأَمرُهُم شُورَى بَينَهُم وَمِمَّا رَزَقنَهُم يُنفِقُونَ).

ويتحلى الكتاب بإضاءة كونية، رفيعة المعنى، ثرية الدلالة للصوفي الثوري جلال الدين الرومي: «رفعتُ لله قِنديلي فأوقده، فَهل تظن يدا في الأرضِ تُطفِئني؟».

وفي فصل «الديمقراطية.. المفهوم والمنظور» يتسامى قول الإمام علي بن أبي طالب: «الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استبد برأيه» ومقولة الإمام أبو حامد الغزالي «الحرية مع الألم أكرم من العبودية مع السعادة».

وفي فصل «المشاركة السياسية» يعلو صوت جان جاك روسو: «رصيد الديمقراطية الحقيقي ليس في صناديق الانتخابات فحسب، بل في وعي الناس»، كأن يقول أفلاطون «لو أمطرت السماء حرية، لرأيت بعض العبيد يحملون المظلات» أو «حيث تكون الحرية يكون الوطن» الرئيس الأمريكي القديم بنجامين فرانكلين. ومن المفارقة التي تكشف عن دهاء في الإسقاط السياسي، بعد هذه المقولة الأمريكية القديمة، ما جاء على لسان الفرنسي نابليون بونابرت: «ويل للعالم حين تصبح بربرية الديمقراطية الأمريكية سيدة العالم» وهي نبوءة نجد لها أمس واليوم وغدًا، تصديقات مرعبة شتى على مسرح السياسة الدولية..!

وتتنازع كاتبنا رؤى استثنائية من كل صوب، شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، كأن يستشهد في سياق حديثه عن الديمقراطية بمقولة عباس محمود العقاد: «قبل أن تنشأ في الأمة ديمقراطية سياسية، يجب أن تسبقها الديمقراطية الاجتماعية» و«الديمقراطية نظام في المجتمع، قبل أن تكون نظامًا للحكم» لسلامة موسى، ومن فكر نيلسون مانديلا: «أنا لست حرا حقا إذا أخذت حرية شخص آخر، المظلوم والظالم على حد سواء، قد جردوا من إنسانيتهم».

ومن الإشارات المختارة بلغة الأعماق البعيدة، ما انتقاه للدكتور إبراهيم الفقي: «لا تتعجب من عصفور يهرب وأنت تقترب منه، وفي يدك طعام له، فالطيور عكس بعض البشر، تؤمن بأنَّ الحرية أغلى من الخبز..!»، وكلها مقولات تتساند لتتماسك جدران منظومة د. أنور الرواس الفكرية في هذا المشهد السياسي الإعلامي، كأن يقول المبدع محمد الماغوط: «أسوأ ديمقراطية في الدنيا أفضل من أعدل ديكتاتور»، وتتجادل معه كلمة للفيسوف الغربي نيتشه: «الإنسانية عاشت حتى الآن، على عبادة الأصنام، أصنام في الأخلاق، أصنام في السياسة، أصنام في الفلسفة» وعندما يحلق في أجواء الإعلام، تبرق مقولة محمد حسنين هيكل: "أرجو أن تتذكر أن الديمقراطية ليست هدفًا، هى وسيلة لتنظيم استعمال الحرية"، وتتجاور معها مقولة ميلوس فورمان: «إن حجر الزاوية فى الديمقراطية هو الصحافة الحرة».

(9)

أدعو حضرات القراء إلى ساحة هذا المشهد، بدون وسائط، ولا حواجز، ولا إيماءات، ولا إيحاءات، إلا ما يفتح آفاقًا أكثر اتساعًا، للتحليق والتدقيق، والتذوق والتحقق، وإثارة ثقافة الأسئلة، والمسكوت عنه، الذي هو أكثر من المباح وأكبر من المتاح.

(10)

القراءة.. كتابة أخرى!

القراءة.. إبداع أيضًا!