علي بن مسعود المعشني
مشروع مارشال هو المشروع الاقتصادي لإعادة تعمير أوروبا بعد انتهاء الحرب الأوروبية (العالمية) الثانية الذي وضعه الجنرال جورج مارشال رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي أثناء تلك الحرب ووزير الخارجية الأمريكي، والذي أعلنه بنفسه في 5 يونيو من عام 1947 في خطاب أمام جامعة هارفارد.
بفعل مشروع مارشال الأمريكي لإعادة إعمار الدول الأوروبية المتضررة من الحرب الأوروبية (العالمية) الثانية، يمكن الجزم بأن الدول المستفيدة من المشروع سلّمت مصيرها وقرارها وجزءًا مهمًا من سيادتها للسيد الأمريكي؛ حيث مثّل المشروع طوق النجاة والضرورة بالإكراه لتلك البلدان، رغم اختلاف بعضها مع أمريكا بصور حادة، سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا. لكن ضراوة الحرب ونتائجها الكارثية أرغمتها على تجاوز كل شيء والقبول بمرارة بالعرض الأمريكي، وفي المقابل، وجدت أمريكا ولوبيات المال بها في الخواء والفراغ الأوروبي فرصة ذهبية للتوغل والتحكم في مصائر هذه البلاد وسياساتها وهي هواية أمريكية بامتياز ومنذ نشأة كيانها السياسي وهي تُمارس استراتيجيات إدارة الأزمات والمتاجرة بها بما يحقق لها المكاسب والنفوذ معًا.
امتد مشروع مارشال ليشمل العدوين الجريحين للحلفاء وهما ألمانيا واليابان بشروط استسلام قاسية ومُذلة لهما، بينما رفض الحليف ستالين العرض الأمريكي ورفضه كذلك بالنيابة عن البلدان الخاضعة للنفوذ السوفييتي كبولندا وألمانيا الشرقية ليقين ستالين بأنَّ المشروع عبارة عن هيمنة أمريكية مُطلقة على البلدان المُستفيدة منه.
منذ تاريخ ذلك المشروع وأوروبا بشكل أو بآخر تخضع للإرادة الأمريكية، وتدور بينهما فصول حروب باردة بصمت وعلانية أحيانًا، وكانت أعلى تلك الحروب صخبًا هي إعلان كتلة الاتحاد الأوروبي عن عملته الموحدة المتمثلة في اليورو والتي خطفت من الدولار الأمريكي المُهيمن على التداول العالمي ما يزيد عن 40% من حظوته في مجال حركة الاقتصاد والتبادل التجاري العالمي.
ولكن عزاء أمريكا وصمتها عن تلك المعارك مع الحلفاء اللدودين في أوروبا هو تحالفهم معها وتحت نفوذها في الحلف الأطلسي أولًا، والنفوذ والتغلغل التدريجي للصهيونية العالمية في الأنظمة الحاكمة في أوروبا وفي مفاصل السياسات والقرارات المصيرية لتلك البلدان. وما المظاهرات الطلابية الحادة التي اجتاحت أوروبا عام 1968م إلا فصلًا من فصول تمكين الصهيونية العالمية بالقوة الناعمة، وكان أبرز ضحاياها الحكومة الوطنية بفرنسا بقيادة الجنرال ديجول، والذي كان آخر القلاع الوطنية المقاومة للنفوذ الأمريكي الفج وللصهيونية العالمية ومخططاتها في أوروبا. تدخل أمريكا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م ونجاح ضغطها على بريطانيا وفرنسا والكيان الصهيوني لوقف إطلاق النار جعلها تملأ فراغ المعتدين الثلاثة في المنطقة وتقرر مصير الكيان الصهيوني وتنظم حلقات الصراع العربي الصهيوني منذ ذلك التاريخ وبفعالية وتأثير عالٍ.
اليوم أمريكا تقرر الخوض بأوروبا صراع وجود مع الروس على جغرافية أوكرانيا، هذه الحرب التي جعلت العالم يتشكل على مختلف الصُعد السياسية والعسكرية والاقتصادية، حيث عجلت هذه الحرب بجميع المؤجلات في الصراع بين الشرق والغرب، وجعلت العالم يتسارع في تحالفاته واختيار مستقبله.
الملاحظ اليوم أنَّ العالم الجديد يتشكل من الشرق وبالتحديد من آسيا، وتمثل ذلك في التحالف الروسي الصيني الهندي أولًا، ثم تبعته عدد من البلدان وأنضمت إليه خوفا وطمعًا، وتمثل ذلك في مجموعة بريكس (البرازيل، روسيا، الصين، جنوب أفريقيا) وإيران وتركيا والسعودية إلى حد كبير. هذا التشكل العالمي الجديد المنطلق من آسيا يمثل أكثر من نصف العالم في كل شيء (عدد السكان، القوة الاقتصادية)، وهو قابل للزيادة والتمدد بفعل الحراك الأفريقي، كما يضم النصيب الأكبر من ثروات العالم الطبيعية المتمثلة في النفط والغاز والمعادن النفيسة والثمينة كما يُمثل القوة العسكرية الأولى في العالم وبلا منازع.
هذا التشكل العالمي مازال سلميًا ومهادنًا للغرب إلى حد كبير، بل مازالت بلدان منه تحتفظ بعلاقات مميزة مع الغرب وغلبتها بعض مع مصالحها السياسية والاقتصادية إلى الانضمام للتحالف الشرقي الجديد، لهذا مازال بيد أمريكا والغرب المزيد من الفسُح والفرص لترميم سياساتها الفوقية وتحالفات الإذعان وتكريس التبعية بدلًا من لغة العصا العارية والتهديد والحصارات والوعيد والتي أفرزت بالنتيجة هذا الرفض العالمي الواسع وجعلت من بلدان فقيرة معدمة في أفريقيا تستفيق وتطالب باستقلالها المنقوص. الغرب مازال يُكابر ولم يفق بعد من هول صدمة تداعيات الحرب بأوكرانيا حتى آخر جندي أوكراني وآخر شبر من جغرافية أوكرانيا. يتهافت الغرب اليوم إلى تقليب دفاتره القديمة للعثور على جغرافيات جديدة كمصادر للطاقة وإلى حلفاء جدد كبدل فاقد، سواء الطاقة التقليدية المتمثلة في النفط والغاز أو الطاقة المتجددة والنظيفة بعد أن فشلت استراتيجيته السابقة باعتماد الطاقة النووية كمصدر وحيد بيد الغرب للطاقة في العالم بحلول عام 2050م، لهذا يحارب الغرب برنامج إيران النووي السلمي بكذبة عدم سلميته، بينما خشية الغرب من أن تصبح إيران مصدرا من مصادر الطاقة النووية النظيفة وتزاحم الغرب في النفوذ الإقليمي، انتشار تقنية الطاقة النووية في العالم وانفجار مفاعل فوكوشيما الياباني السلمي والأضرار البالغة التي أحدثها جعلت العالم يعيد التفكير في جدوى تلك المفاعلات مستقبلًا وأصبح البحث عن بديل آمن هاجسا عالميا.
مشكلة الغرب التاريخية أن جُل الثروات الطبيعية تقع خارج جغرافيته، ومشكلته الكبرى هي عدم استقرار سياساته وتحالفاته في البلدان التي يهيمن عليها لأجل ثرواتها، فالفقر مقابل الحماية الصورية لم تعد تنطلي على أحد اليوم، حيث يجيش الغرب جيوشه ونفوذه الأممي والقانون الدولي لضمان تدفق أبسط مصادر الطاقة أو المواد الأساسية لصناعاته، لهذا نراه اليوم وبزعم البراجماتية - وفي حقيقتها النفعية وغياب المبادئ – يفاوض خصوم الأمس كإيران وفنزويلا لتزويدهم بالطاقة وكبديل عن النفط والغاز الروسي.
لم تكن تتوقع أمريكا ولا حلفاؤها الأوروبيون أن الأمور ستتدحرج لتصل إلى هذه المرحلة من السوء والانكشاف أمام العالم والظهور بالمظهر الإمبريالي البشع بعد عقود من الطلاء والزيف الكاذبين وتبادل الأدوار لذر الرماد في العيون بأن الغرب شياطين وملائكة تتصارع على الحق، فقد أحدثت الأزمة الأوكرانية فراغات عالمية هائلة بفعل رهانات الغرب الخاسرة على تجريب المجرب، وسيكون الغرب هو الضحية الكبرى والخاسر الأكبر لهذا القمار السياسي والفراغ الفج الذي أحدثوه، فخيارات الغرب اليوم وفي المستقبل القريب المنظور تنحصر في التبعية والانقياد للعالم الجديد، أو التغريد خارج التاريخ حتى التلاشي.
قبل اللقاء: يقول الزعيم الأمريكي أبراهام لنكولن (محرر العبيد): " تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، وتستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت، ولكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت".
وبالشكر تدوم النعم.