نغمٌ على أوتار بغداد

 

 

د. سلطان بن خميس الخروصي **

 

التاسع من أبريل 2003 موعدٌ مُرعبٌ ينتابُ كثيراً من قلوب الإنسانية بشيء من الكِبرياء يزاوجه شذرٌ من الانكسار، مشهدٌ لا يزالُ مُتربعًا على هامات العقول والذكريات؛ حينما تسلّقت بعضُ أيادي البيض على ظهور المُعدمين والفُقراء؛ لِتُوَشِّحَ تمثال من كان يَروَنهُ عن قريبٍ أنَّه إمبراطور خالد بِخِرقَةٍ مُلطّخة بلونٍ أحمر تُرصّعها خمسون نجمةٍ زاهية، وقد أرخت على جِيده حبلًا من مسدٍ فأخذت تَجذُبه بدباباتٍ عتيدةٍ؛ لتهوي به إلى الدرك الأسفلِ من الفناء فلا خلود أمام الكِبارِ، ويبقى وجه ربك ذو الجلالِ والإكِرام.

وبين غمضةِ عينٍ وانتباهتِها، وقبيل عقدين من الآن، تم إعدام شعبٍ بأكمله بدافع الغطرسة والخُيلاء والأَنَفةِ، كما تم بيع تاريخ أُمّة يعود لآلاف السنين بثمنٍ بخس، فأُضِجَّ هدوء الآمنين بأقزامِ الطامعين الحالمين للمال والسُلطة؛ فشهد العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، هدوءًا مُستكينًا لم يَقدح عُذريّته إلاّ صفّارات إنذار الحرب في بغداد 2003، والذي شكّل تحالفًا دوليًا مَقيِتًا اكتنفه الكذب والدجل والمجون السياسي؛ فعلى الرُغم من أن العراق كان مُتمسِّكًا بحقِّه في السماح لِلَجنة التفتيش الدولية في الإشراف على مُنشآته النووية -المُهترئة أصلًا- بسبب الحصار الدولي، وتأكيد تلك الفرق على عدم وجود أي مؤشرات تؤكد تلك المزاعم، إلا أنَّ غطرسة الكِبار وقساوة المصالح في كثير من الأحيان تُعمي القلوب والأبصار؛ فقد شمَّرت الولايات المتحدة الأمريكية وربيباتها من الإنجليز والإسبان وقِطَعٌ من دول الاستعمار في سبيل تبديد شبح الخطر النووي (العربي)؛ للحفاظ على سلامة المخاض الإسرائيلي في المنطقة، وساقت في ذلك جمعًا غفيرًا من المُبررات التي كانت تُنذِرُ بإرهاصات إبادة جماعية مُنظّمة.

ومن تلك الشعوذات التي ارتضاها أبرهة الاستعمار للولوج إلى رحم العراق الطاهر وجود قواسم ومصالح مُشتركة بينه وبين الحركات الجهادية؛ وعلى رأسها: "تنظيم القاعدة" بقيادة "أسامة بن لادن"، لكنَّ الواقع والأدب الفكري يستصرخُ نقيض ذلك جُملةً وتفصيلًا؛ فالفكر العلماني لحزب البعث لا يتواءم والفكر الأيديولوجي لمثل تلك الحركات، كما أن كثيرًا من المراقبين والمُتَضلِّعين بالجانبين يتبرأُ كلٌ منهما من الآخر، ويَعضُّ بالنواجذِ على ما يَقتَاتُهُ عقلهُ من مشارب متباينة، فَلِكُلِّ مِنهُما شِرعةً ومِنهاجًا، مع الإشارة إلى أن تقرير مجلس الشيوخ الأمريكي الذي صدر في (29 يوليو 2004)، نفى أي صلة بين نظام الحكم في العراق آنذاك وبين الحركات الجهادية؛ وعلى رأسها: تنظيم القاعدة، ومن المبررات التي ساقها عجول الاستعمار أن العراق سيكون بوابة الملك "عشتار" لنشر الديمقراطية في الوطن العربي الذي تعتصرهُ غيومٌ رُكامية عاصفة تستمطر على العباد صنوف الذُل والامتهان والاستعباد والتقهقر الحضاري والفكري والاقتصادي والتكنولوجي، مُستخفية عن العالم حقيقة أن تلك البوابة هشّة وضعيفة، وهي الشوكة الحقيقية التي ينبجِسُ منها خوف ربيبتها (إسرائيل) في قلب الوطن العربي.

إنَّ المتتبع لخيوط الجريمة الدولية في العراق، يستطيع أن يستقرئ من حيثيتها تفاصيل بشعة حُشرت فيها أرض الرشيد لتحقيق مصالح شخصية بدرجة أولى، وتوجيه رسائل لجهات أخرى بدرجة ثانية؛ فقد كان التخبط السياسي العالمي تجاه هذه الجريمة إحدى الركائز التي دفعت ببعض المُراهقين والمُغامرين السياسيين كجورج بوش الابن -الرئيس الأمريكي الأسبق- وتوني بلير -رئيس الوزراء البريطاني- بالتقدم في تحقيق مُبتغاهم الإجرامي دون الأخذ في الاعتبار أي مُحدِّداتٍ إنسانية أو ضوابط أُممية تُلزمُهم الانصياع لقرارات دولية يجب احترامهم لها كأي عضو ينتمي لتلك المنظمة، أضف إلى ذلك أن شهيّة التحدي والتكبّر والانتقام التي عمت بصيرة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش كانت عُنصرًا مُركّبا في انفصام شخصيته السياسية دفعته بالشروع في تلك الجريمة؛ إذ إن محاولة الرئيس الراحل صدام حسين اغتيال والده جورج بوش الأب في 1993 بالكويت ظلّت عالقة في عقله وقلبه مما حدا به القول: "حان لصدام حسين أن يدفع الثمن"، وتلك العبارة تحمل بين ثناياها ألف حكاية وحكاية، إنّ المُتمعِّن في المشهد الأمريكي تجاه العراق بعد حرب الخليج الثانية يلحظُ حِراكًا سياسيًا مُستعرًا في الكونجرس الأمريكي بمجلسيه الشيوخ والنواب لصنع الشبح النووي العراقي وخطره على الأمن القومي الأمريكي منذ تقديم تقرير مُلفّق من قبل جهاز الاستخبارات الأمريكية عام 2000، والذي عمل على صُنع بُعبع عراقي خطِر من خلال امتلاكه لأسلحة دمار شامل، والحقيقة أن مذكرة ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي الأسبق، ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، كانت ترمي لغلغلة الوجود الاستراتيجي الأمريكي في المنطقة في ظل تعاظم شكيمة الوجود الروسي في المنطقة مدعومًا بقطبي حزب البعث في العراق وسوريا وبعض الأحزاب العربية المناصرة لهما.

وعلى ضوء أكذوبة "أسلحة الدمار الشامل" التي سعت كل المنافذ الأمريكية إلى ترويجها في المحافل الدولية يتقدمهم في ذلك الرئيس الأمريكي الأسبق ووزير خارجيته كولن باول بدأت هذه الأسطوانة المشروخة تأخذ حيّزا من التصديق الحذِر لدى البعض والتصديق المُطلق لدى البعض الآخر، بينما شهد الموقف العربي نومًا هانئًا وبعض التمنّع (المُبطّن) الخجول بعدم السماح في استخدام أراضيها لغزو أحد (جيرانها!!)، دون أن نلحظ جبهة مُضادة لهذا الحشد العالمي؛ والذي أعطى إشارات قوية لدول العالم أن ما تقوله أمريكا حقيقي وواقعي.

وحينما أصدر مجلس الأمن الدولي قراره رقم 1441، والذي يُعطي صلاحيات أكبر لفرق التفتيش الأممية أثناء عملياتها في العراق دون استخدام الخيار العسكري، كان الأخير مُحتضنا لهذه الفرق ومُقدّما لها كل التسهيلات والمساعدات التي تطلبها اللجنة، لكن جنون العظمة وحُب الأنا ونشوة "أنا ربكم الأعلى" الكاذبة قد أعمت العقول والأفئدة بما تملك من أُبّهة العِدة والعَتاد فكان بمثابة القشّة التي قصمت ظهر الوطن العربي، فقد ضربت أمريكا وحلفاؤها كلَّ المواثيق الدولية وكل المعاهدات الإنسانية التي تكفلُ الحياة الكريمة للشعوب، مُتناسية أنها الدولة التي تغنّى العالم ببنود رئيسها الروحي للسلام العالمي "ويدرويلسون" والحائز على جائزة "نوبل" للسلام 1918م الذي نادى جهارا نهارا "يجب احترام حق الشعوب في تحديد مصيرها"؛ فكانت جحافل الأمريكان تدقُّ بيوت الآمنين في العراق، وطائراتهم تُمطِرُهم سيّلًا أبابيل من جُرعات القتل والتشويه، فدُمّرت إنجازات الدولة الحديثة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياحية، وأُرجع العراق إلى ما قبل العصور التاريخية، في وقت كان بالإمكان اغتيال النظام بكل بساطة دون اغتيال الوطن بكل ما حمل!

كان لسقوط بغداد قبل عقدين من الآن وصمة عارٍ لمجلس الأمن الدولي وخسارة جسيمة في إرث الحضارة العربية والإنسانية على حدٍ سواء؛ إذ إن تلك القِطعان العرمرم التي دنّست بياض الكرامة والعيش الكريم في هذا القُطر العظيم من التاريخ الإنساني، لم تألُ جُهدًا في تأمين المؤسسات الثقافية والعلمية والحضارية التي تشكل كنزًا لا يُقدّر بثمن في الملحمة الحضارية للبشرية؛ إذ تسمّرت أسر بالدبابات والبوارج والطائرات لحماية وزارتي الداخلية والنفط فحسب، مما دفع بكثير من المُرتزقة والمُغلظين والمُقامرين والمارقين إلى نسج أكبر سيناريو درامي لسرقة أعظم تُراثٍ حضاري في العالم، فكُلّنا شاهد بحسرةٍ وندامة كيف تُنهب موروثات العراق ومجسماته وتُحفه وأثريّاته ووثائقه من متحف "بابل" والمتاحف الوطنية الأخرى على مرأى وأعين المحتل وتُباع بسعر (الكوسة) و(الطماطم)، وبعضهم يبيعها بحفنة (هيروين) و(كوكايين)، ناهيك عن الجريمة المُنظّمة من قبل بعض الدول في سرقة ما يحلو لها من مجد أُمّة ترعرعت في كنفها حضارات عريقة؛ إذ تُشير تقديرات منظمة اليونسكو إلى أن عدد الأثريات التي سُرقت من المتحف الوطني العراقي تفوق 170000 قطعة أثرية، كما تؤكد أن بعض تلك القطع كبيرة الحجم؛ فمن المستحيل سرقتها عن طريق شخص بمُفرده مما يُثير شكوكًا بوجود (مافيا) مُتخصصة ومُتأهّبة لسرقة تلك الأثريات فور انهيار النظام الحاكم وهو ما حصل بالفعل، وحفاظا على ماء الوجه مثّلت قوى (المارينز) دور حامي الرعية لذرّ الرماد في عيون بعض الوطنيين العراقيين من خلال الزجّ بمكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) للشروع بالتحقيق في ملابسات تلك السرقات والسعي لإرجاعها من غياهب الجُبّ، وإضافة إلى ما سبق ذكره، فقد تم سرقة جُلّ الذخائر العسكرية والحربية التي بذخ فيها الشعب العراقي دم فؤاده للحفاظ على ماء الوجه والذود عن حياض الوطن من أي مُعتدٍ عتيد، وتم سرقة مركز الأبحاث النووية في منطقة (الثويثة).

وسجّلت التقديرات الوطنية بالعراق جُملة ما سُرق من اليورانيوم العراقي من هذا المركز بأكثر من 100 طن تم بيعه وسرقته من قبل بعض السياسيين العراقيين وأسيادهم من الأمريكان ونقله بشاحنات ضخمة وحراسة مشددة، وتشير مجلة "لانسيت الطبية البريطانية" أن عدد القتلى العراقيين منذ بداية الغزو الأمريكي للعراق (15 مارس 2003) وحتى (11 أكتوبر 2006) تجاوز حاجز 655000 قتيل، وقد أكدت الأمم المتحدة أن العام 2006 شكل عاصفة غير مسبوقة في حصاد 34.000 قتيل عراقي.. مُشيرةً بذلك إلى خطورة تغلغل وتعمُّق التعصب الطائفي والمذهبي والعرقي في البلاد، والذي لا يزال يحصدُ أرواحًا بهوية الأرقام، وأمام كل ذلك اختصر الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك "كوفي أنان" هذه الجريمة الدولية بستِ كلماتٍ مُتقشّفة حينما تمتمت شفتاه الغليظتان، وأمام براكين الضغوطات التي انهالت عليه: "إن الغزو كان مُنافيًا لدستور الأمم المتحدة"، دون أن نلحظ أيّ حِراكٍ دولي أو مساءلةٍ حقيقية تحفظُ ماء الوجه لهذه المنظمة التي فقدت شرعيتها لدى كثير من شعوب العالم.

ما أشبه اليوم بالبارحة حينما دخل هولاكو العراق 1258م، وأحلّها لجُنده ثلاثَ ليالٍ سويًا، فبُقِرت بطون الحوامل، واغتُصِبت العذارى، ودُمّرت مظاهر المَدنيّة والحضارة، ونُهِبت الدولة، وأُعدِمت فلولٌ من كُتب العِلم والمعرفة في قعر دجلة والفرات حتى أسوَدَّ لونهما كقِطَعِ الليلِ المُظلِم، هو التاريخ يُعيدُ نفسه ولكن بحُلّةٍ جديدة وبهرجةٍ مُتلونة كالحرباء، وها هم تُجَّار الدَّمِ والمال يساومون بالعراق تارة بالدينِ وأخرى بالمذهب، وحِينًا بالعِرقِ وبعضُ الشعارات الهُلاميّة التي هي بريئة منهم كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب، وكأني بمواطن عراقي يُكدّس ما بقي من عظامه على راحلته مُمسكًا ربوته ويُغرّد بصوت مبحوح:

قِف صوبَ بغدادٍ وانشد رسم قافيةٍ ...

كانت قديما بها أحلى قوافيها

 

دار الزمانُ فدارت عند دورته ...

أحلامُنا وانثنت ظُلما معانيها

 

إني أُحبكِ لا زورًا ولا كذبًا ...

 حتى النُّخاعة من عظمي تُناجيها

 

لا زال حُبكِ يا بغداد بارقة ...

 تُجلي الظلام إذا اسودّت لياليها

 

لا زال حُبكِ يا بغداد يُنعشني ...

ويبعثُ الدفء في روحي فيشفيها

** باحث في علوم التربية والاجتماع