وتلك الأفكار نداولها بين الناس!

 

معاوية الرواحي

 

 

إنِّه صراعُ هيمنة! هذا الذي يُسمى جدال الرأي، والرأي الآخر في عُمان "بالحوار" ليس أكثر من رومانسي يتجاهلُ الواقع، أو يتحاشاه، وأبرئ نفسي من الأولى، ولا أبريء نفسي من الثانية.

الساحةُ الفكريةُ العُمانية تتلاطمُ مع بعضها البعض، ترتطم صفائحها التكتونية فتخلف هزات فكريةٍ لم تصل لعموم المجتمع الكبير حتى هذه اللحظة، ولم تغير طبائعه الغالبة عليه، لكنها كافيةٌ لتصلَ إلى فردٍ واحدٍ لتحوِّل حياتَه إلى جحيم. من المُحزن أن ينأى أحدٌ بنفسِه عن هذا الصراع، وضحاياه فقط لأنَّه يخاف أن يهجمَ عليه جموع الغرباء.

أسلحة الشيطنة، والهجوم الشخصي؛ بل والاغتيال الاجتماعي، وما وصلَ له الحال من التشهير، والجهر بالسوء الذي لا يحبه الله إلا ممن ظُلم! الحال يتجه تدريجيًا إلى الجهرُ بالسوء ممن ظَلَمَ، فلانٌ يقول رأيًا، فتأتي مجموعة من الأشخاص للهجومِ عليه، ودعنا نضع النقاط على الحروف هُنا لتعريف كلمة "هجوم". فعندما تصف رأيًا بالسخيف، هذا ليس هجومًا، عندما تتعالى، وترفع عقيرتك سواء كنتَ عالمًا أو جاهلاً، هذا ليس هجومًا، هذا لغو الكلام، وهذه طبيعته، الهجوم هو ما يحدثُ عندما تدخل الأسلحة القذرةُ في معادلة الآراء، احتباس حراري في كوكب الآراء في عُمان وقد بدأ تدريجيًا بإفرازِ عواصفَ، وفيضانات، وتصحرٍ حسب تأثر المناخات الفكرية، وطقوس الثقافةِ وغيرها من المكوِّنات المعرفية الأخرى في عُمان.

بينما تسيرُ الحالةُ الثقافية الاجتماعيةُ في عُمان في مسارِها دون خطة واضحة، وفي غيابٍ وشحٍّ للمنظرين للعمل الثقافي المرتبط بالمجتمع، تتخلقُ هذه الحالة الهامشيةُ من حوار الآراء في ساحات الشارع الإلكتروني، بشكل فوضوي، غير مُنظمٍ، وبما يثبت الأيام التي يداولها رب العباد بين النَّاس، فالذي كان يومًا ما مُهاجَمًا، مقموعًا، يتعرض لشتى أنواع الضربات من هذه الوسائل الميكافيللية القذرة، أصبح لا يمانع أن تكون هذه الأدوات في يديه، فالسلاح قذرٌ عندما يكون في يد خصمه، أما في يدِه! فالسلاح معترفٌ به. نهايةُ هذه الطريق مأساوية، بكل المعاني، اجتماعيًا يغلي قدر الفتن، وتثور النفوس وعندما تصل لحالةِ الغليان تبدأ حرب الفئات الفكرية بالبروز للسطح، حربٌ عبثيةٌ تحدثُ في "تايملاين/ خط زمني" لموقع إلكتروني، عادةً هو موقع تويتر، ولا تستغربُ أن ترى العقول الكبيرة التي توصف بالباحثة ضالعةً فيه، تُشاركَ حملات التأجيج، والتأليب، أو إثارة غبار النقع لتبدو المعركة مُقنعة، الغبار يكفي! لم المعركة من الأساس.

عندما كانت الخلافات الفكريةُ في الساحة العُمانية تأخذ طابع صراع الديكة، وصدام الأنوف الشامخة، والنرجسيات المنتفخة ظنَّ البعض بالساحة الثقافية الظنون، وأنَّ ذلك أسوأ ما يُمكن أن يحدث لها، وإليك مفاجآت الزمان، وما حدث بعدها ثمَّ جاءَ ما جاءَ من تحطيمٍ منهجي للحالةِ الثقافية، وحدث ما حدث من ظروفٍ مريرةٍ للمثقف العُماني، ومرَّت المرحلةُ العُمانية بشحيح حلوها وعظيمِ مرِّها إلى حالٍ جديدٍ. الرقيبُ الجديد في عُمان هو صوتُ المجتمع، والذي يتم استخدامه بطريقة مختلفة، به شيء من التصالح مع وجوده على الأقل، تغيرت ظروف الزمان ولم تتغير جميع ظروف المكان، ثمَّة تحسنٌ واضحٌ في قدرة الفردِ على التعبير عن رأيه إلكترونيا.

على صعيد الرقابة المؤسسية فلم يتغير الشيء الكثير؛ بل يمكن القول إن حالةً من العناد الشديد والحصار المرتقب لمنصات الرأي الإلكترونية تريد إعادة كل شيء لمربع البداية، محاولةٌ سيكون نصيبها كحال المحاولات السابقة، الوقوف في وجه الزمن الجديد بكل أدواتِه، والوقوف بماذا؟ بمجموعة متهالكة من القيم الرقابية الفضفاضة والترسيخ لفكرة الرقيب الذي يُراقب الكلام، ويشخصنُ في اختياراته وانتقائه، وهو في الأساس الذي قادَ إلى هذه الحالة المزرية من صراع الأفكار في مجتمعٍ قديمٍ، له إرثه الحضاري، وتطوره، وتمتاز أجياله الجديدة بالوعي والاطلاع، كما تمتاز أجياله الأقدم زمنيًا بالتجربة والخبرة، وماذا أسفرَ واقع الحال؟ عن هذه "البداية" التي تعاود الحدوث والتوقف دون خطوةٍ شجاعةٍ من أي طرفٍ لتحويل هذا الجهد الكبير إلى حراك ثقافي، ونقدي، وفكري ينفع الناس، إنها المنظومات الكبيرة التي تتنافسُ على الهيمنة على ساحة الرأي، ونتيجة انتصار أحدها هو انهيار الساحة نفسها، فنعود إلى المربع الأوَّل، بغض النظر عن المنتصر في هذه المعارك، يجلس المنتصر عليها وكأنها كرسي، تنكسر تحت ثقلِه، وهكذا دواليك، جسدُ العنقاء على هيئة صراعٍ فكري.

إن الساحة الإلكترونية، بكل ما تحفلُ به من فرديةٍ تُقلق البعض، ولا سيما هؤلاء الذين اعتادوا على النزعة الكسولة بقيادة منظوماتٍ يردد أفرادها الكلام نفسه. اليسارُ يجتمعُ ضدَّ خصمٍ جمعي، والأخير يجتمع ضد فرد واحد. قسمة ضيزى في أي نقاشٍ فكري. يحضرُ بشحوبٍ بالغ اليمينُ الرسمي الذي لم يعد يجدُ استستاغةً حتى من قبل مُعتنقيه، يتجلى على هيئة مجموعة ضئيلة من الأسماء الشوفينية العنيدة التي ترفع الشعارات نفسها، أما الساحة برمتها فقد تجاوزت هذا الخطاب إلى مجموعة جديدة من الخطابات، معظمها ضمن صدى تجاذبات الفكرة العالمية، وأقواها سطوة التيار المحافظ الذي يمتلك من قبل ميزة تنظيم الصفوف، وتوزيع الأدوار، والاتفاق على مرجعية متوارثة، ومتأسسة، ومتعمقة في التنظير للصغائر وللكبائر من شؤون الأفكار. أما اليسارُ كعادتِه غارق في الانقسامات، وحتى في اتحادِه ضد خصم فكري، يغرق في الاختلاف حول الطريقة المُثلى للتعامل مع الكائن الجمعي المتمثل في فئة المحافظين الذين يحاولون، كما يحاول اليسار، كما تحاول السلطة، كما يحاول العالم، كما تحاول الأمم المتحدة، كما يحاول الغرب، كما تحاول أمريكا... الجميع يحاولون إثبات أن نظريتهم هي الحق الذي ينسخُ غيره من افتراضات، أليست هذه الدنيا؟!

أين يحدثُ المعنى في كل ذلك؟ هُنا الأسف الشديد، ألا يقول الرومانسيون "الحوار صحي"! لماذا الحوار ليس صحيًا في الساحة الإلكترونية العُمانية؟ لأنَّ هناك من ينظِّر ضد هذه الساحة، ويفعل كل ما بوسعه لتحييدها، ويلتفُّ بكل الطرق الممكنةِ لجعلها ساحةً خاويةً ظنَّا منه أن هذا سوفَ يرفعُ من قيمة منصاته الخاصَّة، وهذا لعمري هو ليس ألدُّ الخصام فحسب! وإنما الطريق الأمثل للمزيد من فوضى النشأة والحطام، والمزيد من الاستفحال المتفاقم للصدام الفكري الاجتماعي، والذي أصبحَ يستخدمُ أسلحة "سلطوية" كالاغتيال الاجتماعي، والشيطنة، ووصل الحال إلى التشهيرِ المتبادل، ذلك الذي كان يحدث ضمن سياقات محدودة جدًا يتحول إلى ممارسةٍ عامَّة، وماذا يفعل الرقيب؟ يفعل كل ما بوسعه وهو يقف أمام طوفان الزمن الجديد، ومنصاته العالمية، وبكل الخوارزميات المبنية على مهلٍ، والمُعدّلة بالتجربة، يقفُ في وجه هذا الطوفان وكأن الأمر يتعلق بعدد المتابعين، والزيارات، ويرفض الاعتراف أن ما بُني على تحييد، وتقييد، وشخصنة، لا يستمر، وذلك الذي بُني على منهجٍ قديم مرتبط بنزعة الإنسان الروحية للإيمان مثل الدين، وعلى طبيعة أزليَّة في الإنسان مثل الشك والتساؤل، ماذا عن جماعةُ النص الفضفاض، المبني على المجهول! لم يتغير بهم شيء! يواصلون المعركة البائسة في اعتبارِ ما يقولونه: ضرورةً من ضرورات المكان والزمان!

إن القادمَ في الساحة الإلكترونية أسوأ. استمرار الحال كما هو عليه موضوع وقتٍ قبل أن تظهر فئة تمارس الحرابة الإلكترونية كما حدثَ من قبل، وهذه المرَّة هي فئة مورست عليها هذه السلوكيات، وجاءَت بردةِ فعلها للساحة، ولن يخلو واقع الحال من الانسياق التلقائي الذي يمارسه جموع البشر، من باب التسلية، أو الاعتناق السريع، أو حتى من باب اللهو بالشر، كل ما يخالفُ القيم العُمانية المبنية على التسامح والتعايش يحدث يوميًا في الساحة الإلكترونية! نلومُ من؟ لا يُلامُ سوى الرقيب الذي لم يعلم أن جموحَه، وهياجَه، وعنادَه، ونرجسيته أحيانًا، وظنَّه التنافسي أنه قادر على استبدال هذه المؤسسات الاجتماعية المعنوية، والصغيرة بمنافسٍ مُحتكرٍ سيكفي لتسير شؤون الأفكار في عُمان وفق مبدأ السلامة. فالذي قاد هذا الهياج من أجل الصالح العام انتهى به المطاف ليعترف أن الذي يحدث هو ضد الصالح العام، والذي قادَ هذا الحراك بحُجة أن الحريات خطر على المجتمع يتضح له أن الحرية ليست خطرًا على المجتمع، وأنَّ رفع سقف الحوار الفكري والفلسفي، والديني، وكل ما يتعلق بالسلطة لا يضر السلطة، ولا يضر المجتمع، ولا يضر الناس؛ بل ينفعهم ويوقف استفحال هذه الظواهر، والذي جعل المنصات العامَّة جامدةً تردد الكلام البارد، ويظنُّ أن التوجيهَ الدائم لعقول الناس يفلحُ انتهى به المطاف وحيدًا أمام الطوفان، كل ما يفكر به هو بناء السد تلو الآخر ويشتري المزيد من الوقتِ لنظريةِ خطاب التوجيه، لعلها ستفلحُ بعد كل هذه العقود المتتالية من المحاولة وهي في مكانِها، لا تتقدم، ولا تتقهقر.

لم يعد العالم يتسعٌ لأي خطاب قادمٍ من طرف واحد. التفاعل هو سيد الموقف، ولا حل آخرَ يمكنه أن يجعل صوت فئة واحدة هو الأعلى رغم أنف الفئات الأخرى. الذي يتفاقم في الساحة الإلكترونية ليس خطرًا، ولا مهددًا للسِلم الأهلي، ولكن هكذا تبدأ الأخطار دائمًا، بفئة تُهيمِن على الآخرين، ثم تُنظِّمُ جهودَها، وتنصب أسلحتها العابرة للأذهان، تستخدم الدعاية، والتهييج، والتأليب، والتحريض، ولا تكل، ولا تملُّ حتى تحقق وَهْمَ السيطرة والهيمنة.

وفي المقابل، كل هذا الصراع سيكون له ما بعده إن لم ينتبه أحدهم، ويستيقظ "الأحدهم" الآخر، ويقرُّ الجميع أن طاولة الحوار مفقودة في عُمان، وأنَّها تحتاج لتأسيس منصفٍ يضمن للجميع حقوقهم القانونية في التعبير عن الرأي. عندما تعيش في عُمان تعلمُ أن التعبير عن الرأي الفكري يحدث ضمن تقييد قانوني رسمي، لكن ذلك السقف الفكري الذي يُحدده الرقيب الاجتماعي، أو الإعلامي هو أخفض بكثيرٍ من الممكن قانونًا، وقبل مُلاحقة أين تقفُ سماء الرأي، تأثيث أرض الرأي هذه أوجب نفعًا، وأجدى فعلًا. أما استمرار هذا الحال، فهو لن يقود لكارثة كبيرة، بقدر ما يضيع المزيد من الوقت لعودةِ مؤسسات الثقافة الاجتماعية، وأفرادها بكل مهاراتهم إلى مكانهم الطبيعي في ساحات الرأي والرأي الآخر في عُمان.

أرجو أن يكون كل هذا كافيًا لأي رقيبٍ يُفكِّر بالنظريات القديمة ليُعيد النظر في طريقة تعامله مع الآراء الفردية! حان الوقت للانتقال من عصر الرقيب، إلى عصر الناقد، ومن هُنا تبدأ الأفكار بالتمايُز والترتيب، ومع الوقت نستطيع أن نقول إن مشروع الحوار قد ذهبَ في مسارٍ يجعل كل هذه الجهود أي شيء سوى ما هو عليه الآن: وقت مهدور، وجهد ضائع!