مدرين المكتومية
سعادةٌ هائلةٌ تملكتني، وشعورٌ فريدٌ بالزهو والفخر غمرني، وانبهارٌ لا محدود استحوذ على عقلي، وقشعريرةٌ سرت في أنحاء جسدي، عندما وطأتْ قدماي، لأول مرة، مُتحف "عُمان عبر الزمان"... فقد تشرفتُ بدعوة كريمة لزيارة المتحف والاطلاع على أركانه والتعرف على تفاصيله، بعد سويعات قليلة من الافتتاح الرسمي الذي تفضَّل وشمله برعايته السامية، حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المُعظم- حفظه الله ورعاه-.
فمنذُ الوهلة الأولى وبينما تقترب الحافلة التي كانت تُقِل الوفد الإعلامي، بدأ يترآى لي من بعيد ذلك الصرح الشامخ، الذي لا يبعد كثيرًا عن صرح شامخ آخر، وهو حصن الشموخ العامر بولاية منح في محافظة الداخلية العريقة، وكلما اقتربت الحافلة ازدادت دقات قلبي، وارتفعت معدلات الأدرينالين في داخلي، واتسعت عيناي، استعدادًا لدخول أضخم مُتحف في عُمان. اقتربتُ رويدًا رويدًا، وأنا أمشي الهُوَيْنَا، أخطو بخطواتٍ وئيدةٍ، أتقدم نحو البهو الفسيح في بداية المُتحف، لأدلف بعدها في مختلف أركانه وأجنحته.
خلال الجولة الإعلامية في جنبات المُتحف، شعرتُ بأني أرفرفُ بجناحين كبيرين، أسبح في فضاء هذا الملكوت الذي أبدعه الإنسان، أُلقي بناظري يمنة ويسارًا، أطوف في أرجاء تلك الحَضْرَة المُتحفية، يتقافزُ قلبي تبخترًا وسعادةً بما أطالعه، أتخيل نفسي فتاة عُمانية تعيش في كل حقبة تاريخية، فعندما دخلتُ قاعة التاريخ، ذهبتُ بخيالي إلى مراحل التكوين الأولى للجيولوجيا العُمانية، وكيف كان شكل بلادنا قبل ملايين السنين، شاهدت نفسي أعيشُ بين السكّان الأوائل، حيث استوطن أجدادي هذه الأرض، فعاشوا في العصر الحجري، ثم البرونزي في كنف حضارة مجان، ثم الحديدي تحت حكم مملكة عُمان، حتى أشرقت الأرض بنور الإسلام، وقيام دولة اليعاربة، وانتهاءً بدولة البوسعيديين بأمجادها العظيمة التي ما تزال تتحقق حتى يومنا هذا.
وبينما أهيمُ في هذا العالم الميتافرسي- إن صح التعبير- بتقنيات عرضه المُتطوِّرة والمُذهلة، والتي تعتمد على أحدث ما توصل إليه العقل البشري من أدوات وأساليب عروض رقمية ترتكز على تقنية الواقع الافتراضي متعدد الأبعاد، يتعاظم في نفسي ذلك الشعور بالفخر، بأن هذا الإبداع العُماني الذي كان حُلمًا قبل سنوات، تحوّل إلى واقعٍ مُعاش، وتجسّد في هذا الصرح الأشمّ، فكما إنَّ جبال الحجر وبحري عُمان والعرب والقلاع والحصون وما تحويه من كنوز وآثار من أبرز ما تشتهر به عُمان من شواهد وآثار حضارية وطبيعية، يأتي مُتحف عُمان عبر الزمان ليمثل الجوهرة المكنونة في قلب صحراء منح، التي تُصدر نور تلألئها إلى أرجاء هذا العالم الفسيح، فتُرسل أشعة المعرفة والعلم والتاريخ والحضارة إلى كل بقاع المعمورة، فيهتدي بها الباحثون عن جذور الحضارة وأصل الكون.
المعروضات في المُتحف تبعث برسائل عدة، لكن ثمّة رسالة واحدة يجب الوقوف عندها كثيرًا، والتأمل فيها طويلًا، وتدبرها بإمعانٍ، ألا وهي رسالة الأزل والخلود، فعُمان أرض طيبة نشأت منذ بدء تشكّل الكون، بعدما كانت السموات والأرض رتقًا، ففتقهما الله، ليُولد كوكبنا الأرضي وتُولد معه عُمان، وستظل هذه الأرض باقية ما بقيت السموات والأرض، لأن إنسانها ومنذ بدء الخليقة، قرر أن يُعمّرها وأن يبني حضارة تلو الحضارة، ويُسطر الأمجاد، انتصارًا لإرادة البقاء والحياة.
إنَّ هذا المُتحف الأيقونة الماسية، والوردة الصحراوية، والحكاية الأسطورية، شاهدٌ على الإرث العُماني التليد المُمتد عبر الأزمنة والحقب.. فحُق لكل عُماني وعُمانية أن يفخر ويُفاخر العالم بهذا المُنجز الحضاري، وعلى أبناء عُمان في كل مكان أن يستشعروا المسؤولية التاريخية المُلقاة على عاتقهم كي يُنجزوا ويُبدعوا كما أبدع الأوّلون.. فهم السابقون ونحن بهم لاحقون...