المرض الهولندي

 

سعود بن حمد الطائي

رغم أنَّ الدول الخليجية تُعد من الدول الغنية الآن إلا أن ذلك لم يشفع لها أن تتجنب أعراض المرض الهولندي أو مرض الرخاء، وأصبحت تعاني كما عانت من قبلها هولندا من أعراض مرضية منها ماهو مرئي ومنها ما لا تراه العين، ولكن الأعراض غير المرئية كارتفاع نسبة البطالة مثلاً تظل كامنة لفترة طويلة في الخفاء، ثم تبدأ في النمو المتسارع بعد فترة طويلة من الكمون لتصبح عرضًا خطيرًا يجب علاجه قبل أن يستفحل وتصبح الحلول مرة وصعبة، وينطبق ذلك على الأعراض الأخرى التي تكون في العادة مصاحبة للمرض الهولندي .

والمرض الهولندي ينتج عند هبوط ثروة كبيرة على دولة ما دون جهد صناعي أو زراعي، مثل اكتشاف النفط أو اليورانيوم أو الذهب وغير ذلك من الهبات والموارد الطبيعية. وقد جاءت تسمية هذا المرض في عام 1969 عندما تم اكتشاف بعض آبار النفط والغاز في هولندا على حدودها بالقرب من بحر الشمال وحينها سادت حالة من الفرح والتفاؤل جميع الهولنديين الذين أعتقدوا أن عائدات النفط والغاز، وأن هبوط هذه الثروة مباركة من السماء وأنهم سوف يصبحون أغنياء بدون جهد أو عناء ومالبثت أن سادت حالة من التراخي والإقبال على الاستهلاك وبدلًا من الصناعات الثقيلة، اتجهوا لزراعة الزهور والورود وتربية الأبقار عازفين عن الصناعة التحويلية وعن الإنتاج وانتشرت حالة مرضية تمثلت أعراضها  في ما يلي: ضعف الإنتاج الصناعي، وزيادة نسبة البطالة، وارتفاع معدلات الفساد وضعف الرقابة، وزيادة الأنماط الاستهلاكية المَرَضِيّة.

لم تكن هذه الأعراض بالجديدة على المجتمعات التي هبطت عليها الثروات من غير أن تجتهد في الحصول عليها، كما حصل مع إسبانيا إبان غزواتها في أمريكا واستيلائهم على الذهب وثروات القارة الجديدة وغير ذلك من الأحداث التاريخية التي شكلت منعطفات حادة في تاريخ الإنسانية. وبسبب هذه الأعراض أصبحت هولندا متأخرة عن مثيلاتها من الدول الأوروبية الصناعية مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، ورغم أن الدولة أصبحت غنية بفضل واردات النفط والغاز المكتشف، إلا أن أفراد المجتمع لم يصبحوا جميعهم أغنياء، كما كانوا يحلمون. فقد انخفضت نسبة الاستثمار في القطاع الصناعي وأدى ذلك بالتدريج إلى زيادة نسبة البطالة وكثرت مزارع إنتاج الزهور والورود وتربية الأبقار وهي أنشطة لا تستطيع استيعاب أعداد كبيرة من الباحثين عن أعمال وازدادت نتيجة لرخاء الدولة والشعور بالاطمئنان.

وأصبح المجتمع الهولندي مستهلكًا وغير إنتاجي، كما إن كثرة الاستثمارات في البنية التحتية كالشوارع والقطارات والمؤسسات، فتح أعين الكثير من المسؤولين على توجيه الكثير من هذه المشاريع بما يتناسب مع مصالحهم الضيقة، وترافقت أعراض الفساد وأعراض قلة العمل مع الأعراض الأخرى ليتشكل ما تم الاصطلاح عليه بـ"المرض الهولندي".

هذه الأعراض، وإن اختلفت حدتها وأشكالها، إلا أنها نفس الأعراض التي تعاني منها المجتمعات والدول الخليجية النفطية؛ فدول الخليج دول غنية ولكن ليس جميع أفرادها أغنياء، كما أن  نسبة الباحثين عن أعمال فيها تزداد يومًا بعد يوم، وارتفاع نسبة النمط الاستهلاكي واضح في كثير من المظاهر؛ كالمزايدة على أرقام السيارات واقتنائها وعدم انتشار ثقافة الادخار وارتفاع حجم الديون التي يُعاني منها معظم أفراد المجتمع، إضافة إلى ظهور حالات فساد في المؤسسات الحكومية.

"ولحسن حظ هولندا"، فقد بدأت آبار النفط في الجفاف، وصار النفط غائرًا يصعب استخراجه وأصبح أكثر كلفة وقلت كميات الغاز المستخرجة من حقول بحر الشمال، فاستيقظت هولندا من حلمها الجميل لتجد نفسها بعيدة كل البعد عن مثيلاتها من الدول الأوروبية الصناعية، وجاء الوقت لكي تستفيق وتشمِّر عن ساعد الجد والعمل المُنتج، لتلتحق بمثيلاتها من الدول الأوروبية، وسرعان ما تلاشت أعراض مرضها الذي حمل اسمها، وانتقلت أعراضه إلى دول أخرى ومجتمعات بعيدة، هبطت عليها ثروات هائلة وموارد طبيعية كبيرة وكان لزامًا عليها أن تواجه أعراض الرخاء والمرض الهولندي، وللحديث بقية...