عُمان.. الحياد الصعب

 

علي بن سالم كفيتان

لطالما تحدَّث المُحلِّلُون السياسيُّون والكُتّاب البارزون عن مواقف سلطنة عُمان من قضايا الشرق الأوسط على مدار نصف قرن، ولا يخفون إعجابهم بالقدرة العجيبة للسياسة العُمانية وإمكانياتها العالية للبقاء على الحياد، وإقناع جميع الفرقاء- المتفقين أو المختلفين معها- باحترام ذلك الموقف، ليس هذا فحسب؛ بل والتعاطي معه؛ كونه بات يوفر مساحة مثالية للحوار في منطقة غُيِّبَتْ فيها لغة التعاطي مع الآخر، من واقع "إما أن تكون معي أو ضدي".. وهنا نتساءل: كيف فلتت الذهنية السياسية العُمانية من تلك المعادلة الصعبة؟ هل هو واقع لإرث سياسي تاريخي؟ أم فلسفة قابوسية؟ أم شيء آخر؟!

نستغربُ أحيانًا ممن يُعرِّفون الاستقلال السياسي المُطلق للدول، في عالمٍ بات فيه هذا المصطلح مستحيلًا؛ حيث يرى هؤلاء إمكانية اكتشاف الموارد الطبيعية للدولة- على سبيل المثال- واستخراجها وتأمين وصولها إلى الأسواق العالمية وبيعها والحصول على كامل ريعها، علمًا بأن أقوى الأقطاب العالمية اليوم مثل الولايات المتحدة الأمريكية لا تستطيع تأمين تلك المعادلة، ومن هنا يكون الاقتناع بأن الشأن العالمي عبارة عن واقع يختلف تمامًا عن الشعارات والأوهام التي يُطلقها البعض ويحاول حشد العامة خلفها.

فسلعة النفط- مثلًا- تمر بعملية إنتاج بتقنيات تكنولوجية لشركات عابرة للقارات لا تسمح بتمرير تلك المُمكنات التقنية للدول من واقع استثماري بحت، بينما تكون عملية التسويق بالاتفاق مع مستهلكين لهم شروط، أغلبها تحمل الصبغة الاقتصادية وتحميها القوة العسكرية والهواجس الأمنية؛ فتأمين النقل عبر البحار المفتوحة لها ضريبتها، وهذا ما يغفل عنه الكثير، للأسف، عند الحديث عن تسويق وحماية الموارد الاقتصادية للدول.

وترتبطُ المواقف الدولية بمبدأ الشراكة وتقاطع المصالح وتبادل المنافع، وهنا تتفاوت قدرة الدول على استيعاب هذا المبدأ والتعاطي معه وإقناع رعاياها بتطبيقه؛ ففي الوقت الذي تطلب فيه بعض الشعوب نصبَ العداء مع كل من لا يتفق معها ويتعاطف مع قضاياها، نجدها عندما تستجيب الأنظمة لتلك النظرة القاصرة تثور عليها بتردي الظروف الاقتصادية والمعيشية، ويضيق الخناق عبر الأدوات التي تستخدمها القوى المهيمنة في العالم، وتتهم الأنظمة والحكومات التي استجابت للمطالب الشعبية العاطفية، بأنها فاسدة، وتتعالى الصيحات للإطاحة بها؛ وصولًا إلى الفوضى العارمة، وهنا يتبرأ أصحاب الشعارات الرنّانة من تصريحاتهم؛ لينكمشوا خلف الستار مجددًا كالخلايا السرطانية النائمة.

وانتهجت سلطنة عُمان سياسة حيادية في إقليم صعب وقضايا معقدة، استطاعت من خلالها الحفاظ على الأمن والسلام الأهلي لنصف قرن؛ حيث إنَّ جُل المبادرات السياسية التي قدمتها عُمان وتقدمها، لم تكن لنيل رضا أي طرف؛ بل لترسيخ أركان الدولة العُمانية وضمان النسبة الأعلى من الاستقرار، والوصول إلى بر السلامة في بحر متلاطم الأمواج. وبنظرة سريعة للواقع من حولنا، نجد أن هناك دول إما دخلت في حروب أنهكت شعوبها وأضعفت كياناتها السياسية، أو صارعت فتنًا داخلية تسببت في إهدار الكثير من مكتسباتها الوطنية التي أُنفق عليها المليارات من المال العام؛ لتعود إلى مرحلة الصفر والبناء من العدم.

وبالعودة إلى التساؤلات التي أوردناها في الفقرة الأولى من هذا المقال، نجد أنَّ عُمان كيان سياسي قديم مارس حقوق السيطرة ونافس إمبراطوريات وممالك أخرى، فتوسع جغرافيًا وامتد حضاريًا، ونشر الثقافة العُمانية والدين الإسلامي، وتقبَّل الشعوب التي انضوت تحت رداء الإمبراطورية العُمانية. بينما في طريق الانكماش جرب العُمانيون الفراغ السياسي والحروب الأهلية والصراعات السياسية والثورات، حتى استقر الوضع قبل نصف قرن على يد القائد المؤسس السلطان قابوس بن سعيد- عليه رحمة الله- فرحّبت الدولة العُمانية الجديدة بكل العُمانيين، وأفسحت لهم المجال للمشاركة في بناء وطن جديد، على ركام ماضٍ باتوا مقتنعين جميعًا أن العودة إليه تعني الموت.

لهذا نرى الثراء الثقافي والعرقي والديني واقعًا نعيشه اليوم في سلطنة الخير؛ فالعرق ولون البشرة واللهجة والمذهب ليسوا ضمن مبادئ تصنيف الوطنية أو الانتماء لعُمان الأم، ومن هذا المنطلق وهذه الثقة، نسجت السياسة العُمانية الداخلية والخارجية خيوطها، محافظةً على حيادها الصعب في هذا الإقليم الملتهب، دون التفريط في المبادئ الأساسية للدولة ككيانٍ، أو تعريض مصالح الشعب للخطر.

حفظ الله بلادي، وحفظ جلالة السلطان المعظم، وأدام على شعبنا العظيم نعمة الأمن والاستقرار.