علي بن مسعود المعشني
أكثر "السموم" تأثيرًا على الأمة العربية في قطاع التعليم، هو ترويج الغرب لنا بأنَّ الطب والهندسة هما أعلى مراتب العلم والوظائف، وانطلت هذه الخرافة على أجيال من الشعب العربي وما زالت، وانجرفت خلفها الجامعات العربية والمؤسسات الأكاديمية العربية وصدقتها وسوقت لها ووضعت لها مراتب وشروط قبول تعجيزية فكرست كذبتها في عقول أبنائنا جيلا بعد جيل، بينما في الجامعات الغربية يتم قبول الطالب في مجالات الطب والهندسة بموجب اختبار لا علاقة له بدرجات الطالب من التحصيل في التعليم العام.
وفوق كل هذا حوربت بوعي وبلا وعي العلوم الإنسانية في الجامعات العربية وفي العقل الجمعي العربي المُعاصر وجُعلت في المرتبة الثانية في المكانة والتوظيف للأسف، وخطورة هذه الخطوة تكمن في أنَّ نهضات الشعوب والأمم عبر التاريخ لم تكن بغير العلوم الإنسانية، فبقدر تشبع الشعوب بهذه العلوم والمعارف تكون النهضة والوعي، بل ومن يقود العالم اليوم وفي السابق من حكام ورؤساء حكومات ووزراء وساسة ومفكرين ومن في حكمهم هم من مخرجات العلوم الإنسانية.
وهنا يمكننا القول إن الركن الثالث من فلسفة التعليم هو التركيز والاهتمام بالعلوم الإنسانية كونها الضمير والوعي للمجتمعات، وبغيابها وتغييبها تتحول المجتمعات والشعوب إلى مخلوقات ذات طباع ميكانيكية آلية خالية ومجردة من المشاعر والإدراك والوعي وهنا المقتل .
من جملة الكوارث التي حلت بالتعليم العربي الحديث، كارثة التخصص، فالتخصص ظاهره رحمة وباطنه عذاب؛ فالتخصص سمة من سمات التعليم الغربي، والذي جعل العلم مقابل المال أو يساوي عائده من المال عبر التوظيف، فانطلى ذلك علينا بوعي وبلا وعي كتقليد أعمى وانبهار بالغرب، والتخصص يعني ضمنًا محاربة التعليم الموسوعي الذي اعتادته البشرية في حضاراتها السابقة؛ حيث ساد العالم التوازن والعقلانية في كل شيء، وحُفظ للعلم قداسته وتبجيله ورسالته، بينما التخصص اليوم جعل كل أصحاب علم بما لديهم فرحون، لهذا ساد العالمَ التناحرُ والتنافس السلبي، وتضادت المقاصد والأهداف، ما بين كل علم وآخر إلى حد الاحتراب أحيانًا، وشاعت البطالة بنسب مُرعبة في العالم. لهذا قرر الغرب إصدار خرافة جديدة وهي إلغاء علوم ومعارف من مناهج التعليم بزعم عدم حاجة سوق العمل لها مستقبلًا، وكالعادة تعالت أصوات المنبهرين عندنا لتطبيق ذلك في أقطارنا العربية. وللعلم والأمانة أقول إن أكثر من 85% من الموظفين في أقطار الخليج يعملون بمهارة واحدة تتمثل في مهارة إجادة القراءة والكتابة، ومثلهم يعملون في القطاع العام والخاص بمهارة إجادة اللغة الإنجليزية فقط، والنسبة المتبقية 15% للمهن الفنية. وهذا معناه أن التخصص لا يُعمل به أصلًا في أقطار الخليج وربما غيرها من الأقطار العربية كذلك، وأن اشتراط التخصص في التوظيف أصلًا- باستثناء الوظائف الفنية والتقنية- تعجيزٌ ولا معنى له، طالما الوظيفة في النهاية لا تتطلب سوى إجادة القراءة والكتابة أو إجادة اللغة الإنجليزية لبعض منها.
وهنا أقول.. ليس من العقل أو المنطق أن نُلغي علمًا- بذريعة حاجات سوق العمل- لفشلنا في توظيفه واستغلال مخرجاته لخدمة المجتمع كموظف أو باحث أو كعنصر بشري سوي ومتعلم على أقل تقدير؛ فالمفترض تكييف سوق العمل للعِلم بأنواعه وتخصصاته وليس النيل من العلم للتوظيف. إضافة إلى هذا يجب أن نتساءل عن الحلول الأخرى المتاحة؛ وهي أهمية الشروع في التخصصات المزدوجة في جامعاتنا العربية ومؤسساتنا الأكاديمية وبعثاتنا التعليمية الخارجية؛ لمواجهة حاجة سوق العمل بدلًا من إلغاء العلوم والتخصصات، وبهذا يمكن للمخرجات أن تعمل بأحد التخصصين حين وجود الشواغر.
ويمكن القول كذلك إن الركن الرابع لفلسفة التعليم هو التعليم الموسوعي والحفاظ على قدسية التعليم ورسالته واعتبار كل علم وكل متعلم قيمة مضافة للمجتمع قبل الحديث عن التوظيف وحاجات سوق العمل خاصة في مجتمعات الخليج الفتية؛ فأسوأ ما ابتُلينا به كأمة من أعراض التعليم هو شيوع ثقافتي "أمُيّة المُتعلم" و"أمُيّة الوعي"، فالحالة الأولى أنتجها شيوع التخصص على حساب التعليم الموسوعي، والحالة الثانية نتيجة لغياب التجارب التراكمية في حياة الشعوب وانقطاع التواصل والحوار بين الأجيال، وتغييب تفاعل ومشاركة مفردات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية بأنواعها، لهذا شاع العلم وانتشرت وسائط المعرفة بالتلازم مع الهمجية معًا.
قبل اللقاء: التعليم يُنتج معرفةً ولا يُنتج وعيًا؛ فالوعي يأتي بالتجربة.
وبالشكر تدوم النعم.