هل نستطيع تغيير ثقافة المجتمع؟

 

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

يؤكد لنا التاريخ أنَّ الدول وحتى الشركات تموت وتضمحل لتشبثها بثقافات قديمة لا تتلاءم مع الواقع الجديد المتسم بالتغيير والديناميكية. وتمثل الثقافة السائدة في المجتمع هويته وأبرز مؤشرات وممكنات توجهاته ومستقبله التنموي.

وتُعرَّف الثقافة بأنها البرمجة الجماعية للعقول التي تميز أعضاء مجتمع- شركة أو دولة- أو فئة من الناس عن الآخرين، وهي مجموعة من المواقف والسلوكيات والقناعات التي يتبناها غالبية أفراد المجتمع. وننوه هنا بأن السلوك والقناعات الشخصية لا تعد ثقافة إلا إذا كانت سائدة وتطبق من الغالبية.

وتتولد أنماط السلوك من القيم الأساسية في المجتمع، ولا يحدث تغيير في ثقافة أي مجتمع أو شركة بدون تغيير للقيم والقناعات الراسخة والافتراضات الأساسية. وهذه مسؤولية القادة والمؤثرين في المجتمعات والشركات في كافة مجالاتهم ومستوياتهم. ويبدو أن المجتمعات والشركات التي نجحت في أن تشترك في سمات وثقافات معينة من بينها العمل الجماعي كفريق واحد، وفعل الشيء الصحيح حتى عندما لا يشاهده أحد، والامتثال لجميع القوانين واللوائح أثناء العمل، وإدارة الأعمال بطريقة عادلة وصادقة وعدم الرضا بالعمل الهزيل مهما كان، وإعطاء قيمة لكل مساهمة مهما كانت متواضعة، وغيرها من ثقافات، كل هذه نريدها لهذا الوطن العزيز.

هناك الكثير من الأمثلة على الثقافات السائدة في المجتمعات، نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر: ثقافات إيجابية؛ كثقافة التفكير الإيجابي، والنظر إلى الجوانب المشرقة في أي موضوع، وتحويل التحدي إلى فرصة، وهذه ثقافة منتشرة في المجتمعات ذات الطموحات العالية التي ترى- مع تعاظم التحديات- سمو الهِمم وتعاظم الفرص، وهي مجتمعات تسعى لإيجاد الحلول وعدم الاكتفاء بالأعذار والتبرير. وتبرز في هذه المجتمعات ثقافة الانضباط في الوقت والتنفيذ والأداء وفي كل شيء.

وهناك ثقافات غير إيجابية كثقافة لوم الغير وإلقاء المسؤولية على الطرف الآخر وفي الكثير من الأحيان اللوم يقع على الطرف الأضعف وهناك ثقافة الوضع المريح أو ما نسميها في سياقنا المحلي "الأمور طيبة"، ولماذا تجشم عناء التغيير والذي قد تكون نتائجه غير مضمونة. وهناك كذلك ثقافة التأجيل وعدم العجلة في التنفيذ، وأن الأمور سترتب نفسها مع الوقت. ولا يفوتنا أن نشير إلى ثقافة الريعية والاتكالية في بعض المجتمعات التي ترى أن الحكومات والشركات تنزل عليها مائدة من السماء في نهاية كل شهر لتصرفها دون أن تقابلها مسؤوليات وإنتاجية، وأن قاعدة "سلم تسلم" هي أيسر الحلول وأقلها مخاطرة.

وكما أشرنا، تتحمل القيادات في مختلف الأصعدة والمستويات العبء الأكبر لتغيير وترسيخ الثقافات في المجتمع، ويرجع الكثير من المتابعين تأخر الإنجاز في بعض الدول والشركات إلى الارتكان إلى ثقافة غير مناسبة. ويتفق الكثيرون أنه لا يوجد عقار أو وصفة طبية لتغيير ثقافات المجتمع، وإنما هي إرادة وشغف المجتمعات والشعوب وقياداتها، أو كما يشبهها الكاتب الجزائري سليم نطور في كتابه الأخير "إحياء الشعوب" والذي تناول فيه قضية القيادة بمعناها الواسع بأهمية الثقافة كمحفز لتحقيق تحولات نوعية في نهضة الأمم.

ولا تخفى أهمية أن تقوم المجتمعات بتعظيم الاستفادة من الثقافات السائدة فيها، فمثلًا نأخذ سلطنة عُمان وما يتميز به المجتمع العُماني من ثقافة الترحاب وحسن التعامل وإمكانية توظيف هذه الثقافة لخدمة القطاع السياحي والتجاري والاستثماري في السلطنة. وفي السياق الخليجي نشير إلى تجربة المملكة العربية السعودية الشقيقية في كيفية إحداث تحول ونقلة مهمة في نظرة وثقافة المجتمع السعودي تجاه العديد من المحظورات في المرحلة السابقة، كتلك المرتبط بالمساءلة والمحاسبة وامتهان بعض المهن، وسياقة وعمل المرأة، والاختلاط في الأماكن العامة والمطاعم، وثقافة الإنتاجية والعمل الحر؛ حيث نجحت المملكة في تغيير العديد من الثقافات ووضعت مؤشرات أداء واضحة وحاسمة. وانعكس ذلك على ما تشهده المملكة من قفزات تنموية على مختلف الأصعدة.

وفي السياق العالمي، لا بُد من الحديث عن ثقافة التفكير الإيجابي التي انتشرت في سنغافورة إبان نهضتها؛ حيث تمثل هذه الثقافة أبرز العوامل الحاسمة في انتقال سنغافورة الناجح من الاعتماد الشديد على التصنيع إلى اقتصاد أكثر تنوعًا. وقد تعاملت الحكومة وقادة الأعمال في سنغافورة مع التنويع الاقتصادي بعقلية إيجابية ومتفائلة، فقد كانوا سباقين في البحث عن فرص جديدة واحتضان التغيير وتشجيعه، وعلى استعداد للاستثمار في صناعات وتقنيات جديدة؛ فكانت هذه النظرة الإيجابية أساسية لنجاحهم في دفع النمو الاقتصادي وخلق اقتصاد أكثر تنوعًا.

سنغافورة لديها ثقافة تقدر التعليم والابتكار؛ الأمر الذي ساهم في تكوين قوة عاملة ذات مهارات عالية ومتعلمة ومجهزة جيدًا للتكيف مع الصناعات والتقنيات الجديدة، كما نفذت الحكومة سياسات تشجع ريادة الأعمال والابتكار، مما ساهم في تطوير صناعات وشركات جديدة.

ختامًا نقول.. إن التنمية ليست سوى ترجمةً لإرادة وثقافة الشعوب وقدراتها على التعامل مع المتغيرات المختلفة بشكل شمولي ومتلازم، وهذا يتطلب فَهم الديناميكيات الجديدة في المستويات الاستراتيجية والتكتيكية والتشغيلية. وأن تحقيق تغيرات مهمة لاقتصادنا ومجتمعنا العُماني يستوجب تحولات جوهرية ومقاربات وثقافات جديدة، وأننا في عُمان في حاجة مُلحّة لايلاء موضوع إعادة انبثاق العديد من السمات والثقافات الإيجابية الدفينة في الجينات العُمانية، ما يستحقه من اهتمام؛ فهذا البلد العظيم تاريخًا وحضارةً، يحتاج إلى تعزيز قدراته على حشد وتنشيط هِمَم أبنائه، وإطلاق العنان لإمكاناتهم الحقيقية في بلد غني بالفرص، والأمر يستوجب الابتعاد عن القوالب التقليدية وضرورة نشر الوعي بما نحن مُقبلين عليه، وتزويدهم بالتعليم والخبرات والمهارات لتمكينهم من المنافسة محليًا وعالميًا؛ فالتغيير في أنماط السلوك وثقافة المجتمع هو العامل الحاسم في التحوُّل الناجح؛ لأن الأفراد في قلب عملية التنمية، وهم أنفسهم أداتها.

وخير الختام، أرسى الله عز وجل في كتابه العزيز في الآية 11 من سورة الرعد قاعدة عظيمة يجب تدبرها "إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِم".