ماجد المرهون
تتباينُ طريقة تصور أو تخيل شيء ما ذهنيًا من شخص لآخر، وتختلف بحسب الميول ومعدل الفهم وقوة الإدراك وكم المُعطيات المعرفية التي تعضد ذلك التصور وتؤازره لتقترب به من التأصيل، ويبدأ هنا نموذج ذهني بالتشكل مع مواصلة تعزيزه وتغذيته بالمعلومات الداعمة والإحجام عن التنويع المعرفي وعدم تقبل الآراء المضادة حتى يصل به تدريجيًا إلى الامتثال ويصبح تبني هذا النموذج قناعة صلبة لا يُمكن التخلي عنها بأي حال من الأحوال ولا التفاعل ولو جزئيًا مع ما يناقضها في إغفالٍ لكل ما من شأنه إضعافها خوفًا من الوقوع في الشك الذي قد يُسبب شقوقًا تتسرب منها أفكار الدحض، ويضعف- بالتالي- صرح النموذج المتبنى من أسسه، ويأتي عليه من أعلاه لينقض عراه تمهيدًا لهدمه.
فعلى سبيل المثال ولتبسيط المفهوم: قائد لم يكن محبوبًا جدًا إبان حكمه ولم تكن مرحلته مثالًا كاملًا به يحتذى ولكن بعد موته بفترة طويلة وتواتر معلومات تمجده وتُعزز من شأنه ومكانته بات محبوبًا بأثر رجعي إلى درجة تكذيب بعض الأفعال التي تدينه. ونلاحظ هنا تغيير مزدوج للنموذج الذهني لتلك الشخصية عند عامة الناس؛ فالأول سلبي وهو الطمع بتحسن ظروفهم المعيشية أفضل مما هي عليه، ولكن في حال رحيله فقط، والثاني إيجابي وهو ما آلت له الأمور من سوء غير متوقع بعد موته ثم العودة للتغني بمآثره في الماضي.
إنَّ مجموعة المعلومات لا تعمل تلقائيًا دون ربطها بالفهم التراكمي، وقد يساعد استخدام إستراتيجية الحفظ والتقليد الفرد أحيانًا في التسلل خلال بعض المنافذ ليوقع الطرف الآخر في سراب قوته المعرفية ولكنه لن يصمد طويلًا لأنَّ هذه الخدعة لا تُساعد في معالجة الأحداث والخروج بها إلى ما وراء سياقها الظاهر في تحليل المؤشرات والدلالات والتي غالبًا ما تكون مبهمة غير واضحة المعالم أو عمد إلى تضليلها، كما ضلل الكتاب الفرنسيين أوروبا حول حملتهم على مصر بأنها ثقافية علمية ولتخليصهم من بقايا المماليك والتبعية العثمانية، لا حملة استعمار وقتل وهتك للأعراض والمقدسات.
ومع طفرة التقنية الحديثة وسهولة نقل وتوصيل المعلومة، بات بالإمكان صناعة نموذج في ذهن جيل كامل يعتقد فقط بما يرى ويسمع دون بحث وتمحيص، وسيقتنع بقوة نموذجه وصلابته وقد يكون هذا النموذج غير حقيقي أو لا وجود له أصلًا وإنما بُني على الأوهام وكم هائل من المعلومات الزائفة لكنها تدعم بشكل أو آخر ما أرادت العقول تصديقه وبحسب ما يبدو ظاهريًا.
ما نشاهده اليوم من إشاعة فكرة غير حقيقية عن مصر العربية والمصري الأصيل وتقبل بعض الشعوب العربية ذلك، لهو أمر يدعو للغرابة وهي محاولة واضحة لاختزال أكثر من 1400 عام من التاريخ الإسلامي المشرف في دورة ضعف لا تتجاوز 5 عقود، وقد تمر كل الدول بمثل هذه الأزمات ثم تعود إلى استقرارها، ولكن ما يُثير القلق هو تصوير فكرة جديدة بأن مصر لن تعود إلى مجدها ودورها القيادي. والمتابع لبعض القنوات الإعلامية ومواقع التواصل بدأ باعتقاد ذلك في تسلل لإرساء نموذج سلبي جديد على المدى الطويل، ولا شك أن جزءًا من الإعلام والسينما في مصر لعب دورًا في ترسيخ هذا التصور من خلال المسلسلات والأفلام المصرية منذ الثمانينيات، عندما زاد التركيز على المكر والنصب والرشوة والفقر والتسول والجريمة، ورسمت صورة سلبية لدى بعض الشعوب العربية عن المجتمع المصري وهو ليس كذلك، إلا أن الذهن لا يتوقف عن التأطير وصناعة النماذج والتي يعتقد بصدقيتها لاحقًا، ولا زلت أذكر آباءنا الذين كانوا يقفون توقيرًا وتبجيلًا لمجرد مرور معلم مصري في طرف الشارع المقابل لإلقاء التحية عليه بإشارة اليد من بعيد.
ولنعقد الآن مقارنة بين النموذج المتشكل عن مصر لدى الجيل العربي قبل السبعين والمتأثر بالقومية العربية وتأميم السويس وحرب 6 أكتوبر والجيش المصري، وبين جيل ما بعد الثمانين مع دخول السياسة على الخط في توطين فكرة الضعف من خلال بعض المنابر الإعلامية وظهور شخصيات لا نعرفها لتلقي علينا دروس ومحاضرات لا تركز فيها إلّا على العوامل السلبية ونقاط الضعف والتهكم والسخرية على مصر والمصريين دون الإشارة إلى الحلول، إضافة إلى مواقع وصفحات لشرذمة من صهاينة الكيان المحتل الناطقين بلغة عربية عرجاء وتعليقات كسيحة يراد بها بث روح الانهزام والهوان، وهو نهج قديم تعرفه جيدًا إذاعة الحاخامات الصهيونية منذ الستينات؛ وكأن مصر فقط هي الدولة العربية الوحيدة التي تعاني ماليًا وتواجه تحديات اقتصادية ليثور هنا سؤال بدهي وهو لماذا مصر بالذات التي يركز عليها؟
طبعًا الجواب هو تزييف الوعي حول عظم شأن هذا القطر العربي الإسلامي العريق ومحاولة إشغاله بمشاكله الداخلية لينكفئ على نفسه واستنزاف إدراك الشعوب من حوله، ثم إقصاءه عن دوره المحوري الذي كان يلعبه منذ القدم في الدفاع عن هذه الأمة والذود عن مقدساتها وشرائعها والتصدي لكل ما يُحاك لها، منذ قطع دابر التمدد المغولي في عين جالوت بعد ما أسقطوا الخلافة العباسية إلى الحروب الصليبية وكسر شوكة القديس لويس الفرنسي في معركة المنصورة وصولًا إلى المحاولات اليائسة لنابليون بونابرت باتخاذ مصر قاعدة يغزو منها بقية دول المشرق الإسلامي حتى ثورة هليوبوليس مع سعد زغلول والضباط الأحرار لطرد الاحتلال البريطاني وتطهير قناة السويس من وعثائهم ودرنهم.
أن تتفق الحكومات المتغيرة المتبدلة للاستمرار في تبادل المصالح والمنافع بينها لهو من أحسن الأمور وأن تختلف بين تعارض ومناكدة مع وجود ضرورة الاتفاق فذلك شأن خطير، لكن أن تختلف الشعوب الباقية التي لا تتغير ولا تتبدل فهو شأن أخطر، ولا يجب أن ننساق وراء كلمات تستنهض المشاعر ضد مصر من مغرور ممرور جاء بخلط ممجوج لا معنى له ولا مبنى في سوق براهين وأدلة استأثر بها عن العالمين، ومستثيرًا فرائصنا في عدم تقديم المساعدات لمصر عاقدًا مقارنات بين السابق واللاحق دون مسكة عقل؛ فإن طلبت المساعدة فذلك حق يحسب لها لاعليها، فقد مدت يد العون للعرب والمسلمين من قبل دون أن نشعر وما كُنّا لولا ذلك إلّا تحصيل حاصل لأطماع من لا يرحم، فوجب على العرب بسط أيادي العون لأرض الكنانة دون طلب ولا مِنّة ولا يجب قياس أزمة مؤقتة لنيّف وأربعين عامًا ونسيان ما جادت به أرض الحضارات وبلاد خير أجناد الأرض من أرواح ودماء وما فاد به مصاقع علمائها وفطاحل خطبائها وقرائها وأدبائها.
وستبقى مصر قلعة الإسلام الشامخة عند اشتداد الكرب وسنبقى ماحيينا ندين لها ولأهلها بالفضل والمعروف ولا ينكر ذلك إلا جاهل لا يعلم شيئًا أو متكبر غره بسط الدنيا.