ماجد المرهون
تُعد التحديات من أهم الأحداث التي تتولد مع الحضارات وتعتبر الاستجابة للتعامل معها من أهم الأولويات التي تواجهها الأمم بين بذل جهدٍ مضاعف للقيام والازدهار أو الرضوخ لها في مراحل اليأس ثم الضعف والاندثار، وهذا ملخصٌ سريع لما يعرف بنظرية التحدي والاستجابة للمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي؛ حيث إن التعرض لصدمةٍ ما قد يُفقد التوازن لفترة يجب ألا تطول ثم تأتي الاستجابة على نمطين؛ سلبية بالنكوص إلى الماضي والتمسك به والتغني بمآثره كما يحدث اليوم مع الكثير من الدول العربية، أو إيجابي بتقبل الواقع المرير والاعتراف به والتغلب عليه وتجاوزه إلى المرحلة التالية بشكلٍ أقوى من السابق واليابان مثال جيد على ذلك.
لقد مارس الإنسان أساليب الاستجابة السريعة مع ما تعتريه من أحداث وكوارث بغية البقاء والارتقاء بمعيشته إلى الرفاه، فقد استطاع التغلب على الأمراض كطاعون الموت الأسود الذي فتك بربع أوروبا وملايين الصينيين وآل اليوم مآل الأحداث التاريخية، كما يحاول تحدي الأمراض التي ينقلها البعوض ويقضي بها على ملايين البشر سنويًا، ونلاحظ فارق الاستجابة هنا بين أوروبا وأفريقيا من حيث الرضوخ والاستسلام إلى الواقع الكارثي والبكاء فوق أنقاض المصائب وبين قبول التحدي وتسخير العلوم والأبحاث واستخدامها لخدمة المجتمع، وهكذا نجحت بعض الدول في التشديد على نظام البناء المقاوم للزلازل والتقليل من أضراراها عندما قبلت التحدي وسوف يتخذ غيرها هذه التجربة النموذجية في الإنشاءات المعمارية المستقبلية كنوع من أنواع الاستجابة الملحة للظروف الطبيعية التي باتت تقلباتها تتخذ وتيرة غير مضيافة ومتسارعة نحو العنف والشدة، وفي المقابل لا يخفى فشل الاستجابة لتحديات الحروب وعواقبها التي قضت على البشر أكثر مما فعلته البعوضة والطبيعة مجتمعتين.
يصنف العلماء الكوارث إلى فئاتٍ كثيرةٍ بحسب شدتها وتبدأ بالكارثة العظمى التي تصيب الكون كله بعد توسعه حتى وصوله إلى نقط الصفر ثم الانكماش العظيم، وقانون كلاوزيوس في الإنتروبيا أو التموت الحراري حتى الصفر المطلق وعموماً لا نحتاج كثيرًا إلى أبحاث مؤيدةٍ حول هذا الحدث القادم فكلنا يؤمن بيوم القيامة، ثم ما هو أقل من ذلك كالكوارث التي تصيب المجموعة الشمسية وكوكبنا عضو في هذه المنظومة، وبالتدرج نزولًا في مستوى الشدة إلى كارثة من الفضاء الخارجي تصيب أرضنا كاصطدام الكويكبات أو رجمٍ من الشهب والنيازك وصولًا إلى الكوارث الطبيعية التي تصيب أجزاءً متفرقة من الأرض؛ والزلازل أكثرها تأثيرًا وقسوة على البشر والممتلكات والمكتسبات، ولن يتزلزل معها الإيمان الصلب بالقضاء والقدر كما تزلزلت بعض العقول غير المحصنة وطبقات المباني غير المقاومة، لأن الحكمة الإلهية الخفية لما وراء هذا الخطب الجلل لا يمكن معرفتها بتحليلاتنا الذهنية المتواضعة كما لا يجوز لنا إدخال حكم البلاء والعقوبة بهذا الشكل السريع والفج لنصف الكارثة بأنها عاقبة أخلاقية مبنية على التوجهات والرغبات والجزاء من جنس العمل، فقد ابتلى الله أنبياءه وأصفياءه وهم أحب الخلق إليه ويتوجب علينا عدم ربط السلوك والمعتقدات بالأحداث الكونية وإلا فهل يستطيع أحد تفسير موت طفلٍ رضيعٍ من يومه الأول بينما يُعمر آخر مائة عامٍ ونيِّف؟! بالطبع لا حيث لا تُعلم الحكمة في ذلك، وإذا كان الأمر يتعلق بالثواب والعقاب فإن له يوم معلوم لن نخلفه وإنما بنينا استحقاق بعض الأمم الغابرة للعقاب الدنيوي على ما أقره لنا الله في كتابة العزيز.
تترافق المقارنات والتأويلات مع حدوث كارثة طبيعية تصيب بضررها بقعة من الأرض وعددًا كبيرًا من الناس وأنَّ فلانًا قد تنبأ بزلزالٍ قبل عدة أيامٍ من وقوعه وآخر ببركان وثالث بفيضان وانتشار وباء، وما هذه التكهنات إلا نوع من التنجيم ضمن عشرات ومئات التنبؤات التي لم تصب هدفها المنشود وأصاب واحد منها ضالته ليلفت أنظار الناس له وتطوى البقية التي لم تتحقق إلى سلة الإهمال، وهذا أسلوب سعي إنساني تقليدي لإشباع فهمه المحدود المبني على معطياتٍ بسيطةٍ في تفسير الظواهر مع الاعتقاد بأنه مركز الأحداث؛ يقول الباحث النمساوي جوزيف بوبر: إن كل مرةٍ يموت فيها إنسان تموت معه مجموعة عوالم.
وهذا القول يشير إلى حدوث تشكيلاتٍ لما وراء فهمنا وإدراكنا يعيد فيها الكون تشكيل نظامة بدءًا من موقع الحدث وانتهاءً إلى مالا نعلم.
لا يمكنني في الختام إنهاء هذه الخاطرة دون الإشارة إلى صحيفة شارلي إيبدو الفرنسية المنغمسة في حضيض التهكم على المجتمعات المسلمة باجترار الماضي وتحويره تحت خديعة الحرية وسخرية بعيدةٍ كل البعد عن احترام المشاعر الإنسانية من أحداثٍ آنية لكارثة لا طاقة لأحد بها، وحين انطلت الخدعة على البعض عندما بررت حقدها على الإسلام وكرهها للمسلمين بحرية التعبير من خلال الرسوم المسيئة، أظهرت لنا ما أضمرت من كراهية في تشفيها من زلزال تركيا، فما هو مبررها الآن وهل يندرج هذا أيضًا ضمن الحرية التي تدعيها لنفسها؟! ولماذا يستمر الرئيس الفرنسي بالتصريح حول استعداده لتقديم المساعدات لسوريا المنكوبة ويذيل تصريحاته بعدم التنازل عن ثوابته حول العقوبات المفروضة على النظام، وأتساءل ما الذي يخشاه ماكرون ليبرئ منه ذمته إن أعلن عن تقديم بلاده للمساعدات دون الإشارة لإخلاء طرفه من العقوبات؟! إنها الإنسانية الفرنجية المشربة بحمرة السياسة الراقصة على تقسيم ما قسمته سابقًا في أبهى صورها الإعلامية كما رقصت فرنسا عام 1755م في عيد القديسين عندما كانت لشبونة ترزح تحت وطأة زلزال مدمر علمًا أن الشعبين ينزعان إلى أرومةٍ مليةٍ واحدة، إذًا تتلخص المسألة كلها هنا حول الأخلاقيات.