د. محمد بن عوض المشيخي **
ارتبطت الأجيال العربية المُتعاقبة طوال أكثر من ثمانية عقود ونصف العقد، بهيئة الإذاعة البريطانية الناطقة باللغة العربية "بي بي سي عربي" أو "راديو لندن"؛ كونها تتمتع بمصداقية بين الجمهور العربي خاصة كبار السن الذين كونوا علاقات قوية مع موجات "هنا لندن" التي يتجه إليها المستمعون خلال الأزمات والحروب والكوارث الطبيعية عربيًا ودوليًا لمعرفة الأخبار ومتابعة التحليللات السياسية وأبعادها على الساحة الدولية.
كانت وسائل الإعلام العربية من المحيط إلى الخليج ينقصها الصراحة والموضوعية، وتتمحور وظائفها في المديح والدعاية لحكام الدول، بعيدًا عن استعراض الحقائق، مما جعل الإذاعات الموجهة من الخارج وخاصة الإذاعة البريطانية تستحوذ على نصيب الأسد من المستمعين في الوطن العربي الكبير. وبدأ البث الموجه للعرب في عام 1938م بصوت المذيع المصري أحمد كمال. وكان من أهم أهداف إذاعة (بي بي سي) أن تكون مصدرًا لإعلام عالمي غير منحاز، وإذاعة أخبار بريطانيا وثقافتها للعالم العربي. ومن المفاجآت غير السارة لمستمعي هذه الإذاعة إعلان المسؤولون في هذه المنظومة العالمية للإعلام المرئي والمسموع قرار وقف البث العربي عبر الأثير اعتبارًا من يوم الجمعة 27 يناير 2023. وبالفعل غابت عن الأسماع دقات ساعة "بيج بن" الشهيرة التي اقترنت بهذه الإذاعة، التي كانت تعتمد على محطات التقوية (Transmissions) في جزيرة مصيرة العمانية لعدة عقود، ثم تم نقلها في تسعينيات القرن العشرين إلى نيابة الأشخرة التابعة لولاية جعلان بني بوعلى؛ إذ إن هذه الهوائيات تغطي شبه الجزيرة العربية والخليج العربي وشرق إيران والعراق عبر أثير الموجة المتوسطة (AM) "هنا لندن". ومنذ منتصف العقد الماضي، قامت "هنا لندن" بإعادة بثها في العاصمة العمانية عبر موجات (FM)، وذلك ضمن ترخيص خاص حصلت عليه هيئة الإذاعة البريطانية من وزارة الإعلام العمانية.
وقد كان السبب المعلن لوقف الخدمة العربية لبث (بي بي سي) توفير 31 مليون دولار أمريكي سنويًا؛ وإلغاء 382 وظيفة، فضلًا عن التحول الجديد الذي فرض نفسه على ساحة الإعلام الرقمي والمتمثل بالمنصات الرقمية لزيادة التفاعل مع الأجيال الجديدة الذين رضعوا التكنولوجيا، ويجيدون متابعة الصفحات الإلكترونية البديلة للراديو كصفحة "هنا لندن" التي يمكن الوصول إليها من خلال الموقع الإلكتروني (bbc.com/arabic)، كما أن العديد من برامج البودكاست ستكون متوفرة على نفس الموقع، بعضها جديد والبعض الآخر من البرامج القديمة كنشرة أخبار يومية واحدة.
وتعد الإذاعة المسموعة من أهم الإنجازات الفكرية والحضارية في القرن العشرين، والذي شهد أول بث إذاعي منتظم في التاريخ بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1920م، فالعلماء الأوائل الذين اخترعوا هذه الوسيلة أمثال الألماني (هيرتز) الذي أكد إمكانية نقل واستقبال الموجات الإلكترونية لاسلكيا، والإيطالي (ماركوني) الذي اخترع الراديو، لم يخطر ببالهم أن اختراعهم القائم على نقل الصوت البشري عبر موجات الأثير سيتحول يومًا ما إلى أحد أهم وسائل الإعلام الجماهيري، فكانت البداية للراديو الذي ينقل الصوت دون أسلاك؛ إذ كان يستخدم في الملاحة البحرية لنقل المعلومات بين الموانئ والسفن البريطانية الأمريكية عبر المحيط الأطلسي، كما كان يستخدم في المجال العسكري بين الأفراد العاملين في السلك العسكري للتنسيق بين مختلف الوحدات العسكرية كالجيوش البرية والأساطيل البحرية.
ويصادف 13 من فبراير من كل عام اليوم العالمي للإذاعة المسموعة التي حددتها المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، ودَعَتْ دول العالم إلى الاحتفال بهذه المناسبة منذ عام 2013م، ويرجع هذا الاختيار إلى اليوم الذي بدأ فيه أولُ بثٍّ إذاعي للأمم المتحدة عام 1946. وتهدف اليونسكو من خلال هذه الاحتفالية إلى تذكير شعوب العالم بأهمية هذه الوسيلة المهمة، ودورها الريادي في خدمة الإنسانية، ورفع المستوى الفكري والتوعوي للناس في مختلف أرجاء المعمورة، كما تهدف المنظمة الدولية من وراء تحديد يوم عالمي للراديو إلى التنسيق والتعاون بين الإذاعيين الذين يعملون في مجال الإذاعة؛ لتبادل الخبرات بين مختلف المؤسسات الإعلامية في هذا النطاق، وتكمن أهمية الراديو في قدرته الفائقة على جذب المستمعين في أرجاء العالم كافة من حيث وصوله إلى أكبر عددٍ ممكن منهم، ويعود الانتشار الواسع لجهاز البث الإذاعي (الراديو) إلى خمسينيات القرن العشرين عندما تمكن العلماء في الغرب من اختراع جهاز (الترانزستور)، ثم قامت شركة سوني اليابانية بشراء حقوق هذا الاختراع الذي قلب كل الموازين في عالم البث الإذاعي، فأجهزة الراديو كانت كبيرة الحجم، وغالية الثمن، وتتطلب توفر التيار الكهربائي، بَيْدَ أنَّ هذا الإنجاز العلمي أتاح صناعة أجهزة راديو صغيرة، رخيصة الثمن لا يتجاوز سعرها بضعة دولارات، ويمكن حملها في الجيب، وتتم تعبئتها ببطاريات صغيرة الحجم. وتتميز الإذاعة المسموعة عن منافسها جهاز التليفزيون بمزايا عدة، فالكتابة الإذاعية بسيطة، وسهلة، وغير معقدة؛ ذلك أنَّ العمل الإذاعي يحتاج إلى نص جيد، قوامه الجمل القصيرة، والكلمات الواضحة والمباشرة، والوصف الدقيق للأحداث، بعيدًا عن الجمل الاعتراضية.
والسؤال المطروح الآن: هل بالفعل قد ولى عصر الإذاعة المسموعة، بلا رجعة؟! وبالتالي حان الوقت لنودع عمالقة الكلمة المسموعة عبر الأثير؟! لقد كشفت إذاعة لندن أن الذين كانوا يستعمون لها عبر الراديو 5% فقط، وذلك من بين 39 مليون شخص يتابعون برامجها عبر المنصات الرقمية المختلفة، وربما هذا هو السبب للتحول شطر الجيل الخامس والسادس من ثورات التكنولوجيا الرقمية الحالية والقادمة في المستقبل القريب.
صحيح الوضع مختلف في بعض الدول التي يتمتع فيها الراديو بشعبية كبيرة كما هو الحال في سلطنة عمان؛ إذ إن الإذاعات الخاصة محتفظة بأعداد كبيرة من المستمعين، كون هذه الإذاعات تركز على أوقات الذروة في الفترة الصباحية وبعد الظهر؛ خاصة الأوقات التي يكون فيها الجمهور في السيارات أثناء الذهاب للعمل والخروج منه، وهذه الإذاعات التي تبث برامجها على موجات (FM) تحرص على عرض القضايا التي تهم المجتمع مع تقديم الحلول من الضيوف الذين يتواجدون في تلك البرامج في أوقات الظهيرة، على وجه الخصوص.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري