البحث والتطوير والابتكار.. مسارٌ لا رجعة فيه

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

التنمية سلعة باهظة الثمن والوصول إليها عملية شاقة، تستوجب فهمًا عميقًا لمختلف المتغيرات، وترابطها وتشابكها، وفن التعامل مع عالم تتعاظم تحدياته؛ الأمر الذي لا يمكن تحقيقه دون قدر عالٍ من البحث والتطوير والابتكار في الحلول والأدوات والسياسات، ومن يرتكن إلى الوسائل التقليدية في الحلول، لن يحصد سوى النتائج التقليدية.

ولا شك أن تحقيق تحولات عميقة أو كما نسميها "تحولات بارادايميّة" لإحداث نقلة نوعية من نموذج تنموي لآخر، ليس سهل المنال، خاصة وأن عالمنا ونظامنا الاقتصادي والاجتماعي في حالة تغيرٍ مستمرٍ بسرعة، ولا يمكن التنبوء بالدقة المطلوبة. وجميع قضايا الوطن وإن كانت مختلفة، فهي في نفس الوقت تتفاعل مع بعضها البعض، ومع عدد من العوامل الأخرى كذلك؛ منها عوامل ذات صلات مباشرة وغير مباشرة، فهناك تغيرات مهمة في المجال الديمغرافي والتكنولوجي والاقتصاد الكلي وغيرها، تُحتِّم علينا في سلطنة عُمان تحقيق هذه النقلات والتحولات والمقاربات الجديدة؛ لخلق المزيد من الوظائف في القطاع الخاص، وتحقيق التنويع الاقتصادي بمعناه الواسع في الإيرادات والإنتاج والتصدير، وزيادة ديناميكية دورة الأنشطة الاقتصادية المحلية، وإعادة توزيع أدوار التنمية في نموذجها المنشود، وغير ذلك من أفكار، والتي لن تتحقق دون إيلاء عناوين المستقبل المتمثلة في "البحث والتطوير والابتكار" الاهتمام والعناية المطلوبة.

التجارب العالمية تشير في هذا الصدد إلى تميز مسارات التنمية في جميع الدول التي تحقق زخمَ نموٍ مرتفعٍ ومتواصلٍ، باستنادها التام على البحث العلمي والتطوير والابتكار، لا سيما في الفترات التي تواجه فيها تحديات اجتماعية واقتصادية كبيرة. وتؤكد هذه التجارب أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين الميزانيات السنوية المرصودة لمشاريع البحث والتطوير والابتكار كنسبة مئوية من إجمالي الناتج المحلي، وبين نجاح هذه الدول في التعامل مع مختلف التحديات التنموية الآنية والمستقبلية، وتحول اقتصادها نحو الاقتصاد القائم على المعرفة، والذي يرتكز على هذه النوعية من المشاريع المنتجة للمعرفة، قادرة على ردم الفجوة المعرفية بين مجتمعاتها والعالم المتقدم، الذي تتوق للوصول إليه.

إحصائيًا، تشير بيانات 2018، إلى أن الدول المتقدمة، ونظرًا لإيمانها المطلق بالتجديد والفكر والابتكار في كل شيء، ترصد ميزانيات ضخمة للبحث العلمي والابتكار، فعلى سبيل المثال، يُنفق على البحث العلمي والتطوير والابتكار من الناتج المحلي الإجمالي في كوريا الجنوبية 4.5%، وفي الصين 3.5%، وفي اليابان 3.3%، وفي الولايات المتحدة 2.8%. وخليجيًا هناك أداء متباين؛ حيث يشير مؤشر الابتكار العالمي لعام 2021 إلى أن دولة الإمارات العربية المتحدة تحتل المرتبة الأولى خليجيًا و33 عالميًا، تليها المملكة العربية السعودية في المرتبة الثانية خليجيًا و66 عالميًا، ثم دولة قطر لتحتل المرتبة الثالثة خليجيًا و68 عالميًا، تليها دولة الكويت الرابعة خليجيًا و72 عالميًا، وبعدها سلطنة عُمان الخامسة خليجيًا و76 عالميًا، ثم البحرين في المرتبة السادسة خليجيًا و87 عالميًا. وتجدر الإشارة هنا إلى تجربة المملكة العربية السعودية التي تنفق 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي وتعتزم إنفاق 2.5% بحلول عام 2040، حسب تصريحات لولي العهد السعودي عن التطلُّعات والأولويات الوطنية؛ حيث قال: "اعتمدنا تطلُّعات طموحة لقطاع البحث والتطوير والابتكار، لتصبح المملكة من رواد الابتكار في العالم، وسيصل الإنفاق السنوي على القطاع إلى 2.5% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2040". وقد استندت  المملكة في تحولاتها النوعية الأخيرة التي بدأ الجميع يتلمس نتائجها على البحث والابتكار؛ حيث قامت برفع كبير في الميزانية المخصصة لذلك في مختلف المجالات، فما يحدث في المملكة اليوم ليس وليد صدفة، وإنما نتاجَ دراسةٍ وبحثٍ عميقين لقضايا النسيج المحلي السعودي وابتكار ما يناسبه من حلول وأدوات.

وفي السياق المحلي، ثمة مؤشرات- لا أود الخوض فيها- لكن يمكن من خلالها الاستدلال على الوضع المحلي، ومن بينها حجم الإنفاق المخصص للبحث والتطوير والابتكار كنسبة من الانفاق العام ومن الناتج المحلي الإجمالي، وعدد الأوراق العلمية التي نشرها باحثون عُمانيون في مجلّات علمية مُحكمة، وعدد براءات الاختراع المسجلة ومرتبة السلطنة في مؤشر الابتكار العالمي، وحجم الاستفادة من مؤسسات التعليم العالي والخبراء في القطاعين العام والخاص؛ لإجراء البحوث التي تعالج التحديات المحلية، وعدد المراكز البحثية والفكرية التي تنمي وتشجع على البحث والتطوير الابتكار وتدعمه.

والاهتمام بالبحث والتطوير والابتكار لا يقتصر على مستوى الحكومات، وإنما يشمل الأفراد في كل ما يقومون به، ولذلك من الأمور المهمة التي يتعين على الشركات المحلية معرفته والقيام به، هو إيجاد مسار للنمو وتطوير الأعمال وصولًا إلى وضع أفضل على مستوى الإيرادات والمنتجات والأسواق وخدمة العملاء، علاوة على أن تعزيز الكفاءة لن يتأتى دون إيلاء البحث والتطوير والابتكار الأهمية القصوى؛ فتطوير الأعمال يتغير مع تطور الشركة ومرحلة وأولويات الاقتصاد. وهنا يلعب البحث والتطوير دورًا مهمًا في تحديد المسارات الاستراتيجية، وفقًا لأولويات كل شركة واقتصاد. ونرى الكثير من الأمثلة في العديد من الدول التي تولي اهتمامًا بالغًا بالبحث العلمي والتطوير والابتكار؛ حيث تقوم شركات القطاع الخاص بإشراك الباحثين من الجامعات في مشاريع تفوق الإمكانات المتوفرة في أقسام الأبحاث الخاصة بهذه الشركات، أو حتى تمويل إنشاء كراسي ومراكز بحثية متخصصة لتعزيز مساهماتها وبرامجها البحثية في الجامعات المحلية أو تقديم منح لطلبة الدراسات العليا في التخصصات التي تتعلق بمجالات عملهم، أو تقوم بتحويل وترجمة نتائج البحوث والدراسات المتوفرة الجامعات إلى مشاريع تجارية لتحقيق الإفادة المبتغاة والنقلة النوعية المنشودة.

وفي السياق المقابل، هناك العديد من الأمثلة أمامنا من الشركات والدول التي أصيبت بـ"شلل برادايمي" في التأقلم والموائمة مع المتغيرات المحلية والإقليمية وحاجات السوق ورغبات العملاء، ونذكر منها شركات "كودك" و"بلاك بيري" و"نوكيا" وغيرها. وهنا وجب التنويه إلى أن الكثير من شركاتنا المحلية غير مستوعبة للواقع الجديد والمقاربات الجديدة وتوجهات المستقبل في خلق فرص عمل للعُمانيين وتعزيز الإنتاج المحلي والتصنيع والتصدير كبديل للنموذج السابق القائم على الاستيراد والعمالة الوافدة متدنية المهارة، وانتظار المناقصات الحكومية. ونؤكد على أننا جميعًا أفرادًا وحكومةً وشركات أمام فرص عظيمة للوثوب لتحقيق قفزات تنموية وتوسعة الأعمال والنمو، لكن لن يتحقق ذلك دون فكرٍ جديدٍ يؤمن أن البحث والتطوير والابتكار مسارٌ لا رجعة فيه.

وختامًا نقول.. إن عُمان تتأهب للانطلاق إلى مرحلة جديدة من النمو، تُوظَّف فيها مفرداتها المكانية والحضارية والطبيعية، من أجل التعامل مع استحقاقات جديدة بمقاربات جديدة لربط الموارد والفرص ومكامن القوة المتاحة، وذلك لن يتأتى دون المزيد من الاهتمام بالبحث والتطوير والابتكار، والاهم من ذلك وجود الشغف الحقيقي لدى قيادات المجتمع والشركات والاسر لتحقيق الأفضل للجميع، وأن نعمل على استقطاب أفضل المواهب الوطنية والعالمية، وتعزيز التعاون مع كُبرى مراكز البحث والشركات العالمية والقطاع غير الربحي والقطاع الخاص، اللذان يُعدان شريكًا أساسيًا لقيادة البحث والتطوير وزيادة الاستثمار في القطاع.