د. محمد بن عوض المشيخي **
وصلتني رسالة تحمل كلمات حزينة وعبارات مُثقلة بالهمِّ الوطني من إحدى القامات العلمية العُمانية التي تحمل شهادة الدكتوراه، والتي شملها نظام التقاعد المبكر الأخير، والرسالة عبارة عن نداء استغاثة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الكوادر الوطنية المؤهلة التي صُرف عليها مبالغ طائلة من خزينة الدولة طوال العقود الماضية؛ إذ أصبحت هذه الكفاءات الوطنية تملك من الخبرات العلمية والبحثية ما يؤهلها للعمل في المؤسسات الأكاديمية الحكومية منها والخاصة، وكذلك المساهمة في إجراء دراسات علمية عن الظواهر الاجتماعية التي تواجه المجتمع العُماني، فضلاً عن رصد وتحليل المعضلات الاقتصادية المحلية التي تشكل تحديا للوزارات والشركات الحكومية والخاصة في السلطنة.
كم أسعدني وأحزنني، في نفس الوقت، مضمون هذا الخطاب الذي يحمل معاني قيّمة ويعبّر عن واقع الحال، بينما نتمنى مراجعة السياسات المتعلقة بحملة المؤهلات العليا، ووضع هذه القامات العلمية في أماكنها المناسبة، والاستفادة منهم في الأعمال الاستشارية وفتح مراكز بحثية ونوادٍ علمية لاحتضان هؤلاء كل في مجال تخصصه لخدمة هذا الوطن تحت القيادة الرشيدة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه.
جاء في مطلع الرسالة المقدمة الآتية: "أستاذنك استاذي.. هناك فكرة تولدت في ذهني ورغبت أن تكون أنت من يتبناها ويظهرها إلى العلن... طبعًا كما تعلم خلال الفترة الماضية أحيل عدد ليس بالقليل من موظفي الجهاز الإداري للدولة إلى التقاعد، وهذا الأمر من وجهة نظري أمر عادي وسياسة متبعة في كثير من الدول، لكن بالنظر إلى خروج هذه الأفواج من الخبرات القيادية العليا في القطاعين المدني والعسكري؛ وكذلك صفوة الخبرات الإدارية والفنية في الجانب المدني إلى التقاعد، بعد سجل حافل ومشرف، ينبغي على الدولة الاستفادة من هذه العقول والقيادات العليا من أصحاب المؤهلات العلمية والأكاديمية، كما إن هذه النخب المتميزة هي التي بنت وتعبت وسهرت على مدى أعوام مسيرة النهضة بكل جزء في هذه الدولة وكان الهدف واضحًا وجليًا أن تجعل عَلَمَ هذا الوطن يرفرف عاليًا بالأمن والأمان والاستقرار". انتهت الرسالة.
لا شك أن كلمات هذه الرسالة مؤثرة ومهمة لنا جميعًا في هذا الوطن الغالي الذي يجب على القائمين على شؤون التخطيط أن يراعوا تلك الخبرات الوطنية المتراكمة التي وجدت نفسها خارج نطاق الخدمة، وتحولت إلى ما يشبه المعادلات الصفرية، وكأن وجودها كعدمه، على الأقل من وجهة نظر بعض من هؤلاء الذين يحملون مشاعر وأحاسيس قوية تجاه تلك القرارات التي اتُخذت في ظروف صعبة كانت خزينة الدولة بالكاد توفّي بالالتزامات المتعلقة برواتب الموظفين في القطاع الحكومي. خاصة إذا عرفنا حاجة الوطن إلى خبرات جميع أبنائه المخلصين، لوجود وظائف عدة يشغلها وافدون في القطاع الأكاديمي، الذي يضم عددًا كبيرًا من الكوادر الأجنبية، في غياب شبه كامل من المخططين لمسألة تأهيل الخبرات الوطنية لتولي مسؤولية التدريس في الجامعات الحكومية والخاصة على حد سواء؛ فنسب التعمين في القطاع الأكاديمي لا ترقى لمستوى الطموحات، على الرغم من مرور عقود طويلة على إنشاء تلك المؤسسات الوطنية التي يُفترض فيها أن تحتفظ وترسل الأوائل من مخرجاتها لاستكمال الدراسات العليا، ومن ثم يتولون التدريس والتدريب في مؤسساتنا الأكاديمية بعد اكتمال مسارهم العلمي الذي ينتهي بالدكتوراه. كما إن قطاعات عديدة تحتاج إلى هؤلاء الخبراء من المتقاعدين من القطاع المدني والعسكري؛ إذ إن معظم تلك الكوادر تأهلت ودرست في دول ناطقة باللغة الإنجليزية، ويمكن لبعض أصحاب الشهادات العليا العمل في الوظائف القيادية في الشركات المساهمة والعائلية بدلًا من آلاف الأجانب الذين يتولون حاليًا مناصب عليا في معظم شركات القطاع الخاص.
يجب الاعتراف بأن هناك هدرًا للطاقات العلمية في البلدان النامية بشكل عام، ومنها السلطنة، والقليل من السَّاسة وصُناع القرار يفكرون في أهمية الدراسات العلمية التي تكشف عن حاجة الوطن لاستثمارها، والاستفادة منها لتوفير الوقت والجهد والمال عند اختيار من ينفذ العمل الوطني، الذي يعول عليه الجميع لتحقيق الأهداف التنموية للمجتمع.
من المفارقات العجيبة أن الولايات المتحدة الأمريكية أكرمت وزير الخدمة المدنية في العهد السوفيتي؛ لكونه نجح في تفتيت هذه الإمبراطورية التي كان لا ينقصها شيء غير التخطيط السليم واختيار القيادات المناسبة والمخلصة!! فتحكي الروايات المتدوالة أن هذا الوزير حقق أهداف الدول الغربية التي حاولت دون جدوى خلال العقود الأولى للصراع، اختراق هذه المنظومة الشيوعية وتفكيكها منذ الأربعنيات من القرن العشرين، وذلك مع بدء الحرب الباردة بين الشرق والغرب. وكان الدور المرسوم لذلك الوزير في الحكومة السوفيتية؛ هو أن يضع الشخص المناسب في غير مكانه؛ لإحداث الفوضى والفشل لجميع الخطط والمشاريع الوطنية للدولة الشيوعية!
وفي الختام.. نقول إنَّ الآمال معقودة على صُنَّاع القرار في هذا البلد العزيز للوقوف على كل السياسات والقرارات السابقة؛ وإخضاعها للفحص والتمحيص لكي نستخلص الأنسب منها للمجتمع، انطلاقًا من نص الحديث الشريف "من اجتهد ولم يصب فله أجر واحد، ومن اجتهد وأصاب فله أجران".
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري