د. محمد بن عوض المشيخي **
تابعنا خلال الأيام القليلة الماضية السجال الدائر في أوساط الرأي العام العُماني حول القرار الرافض بالسماح لأهل الخير من الغيورين على هذا الوطن، بمساعدة وإنقاذ فئة الغارمين الذين أوصلتهم الديون إلى السجون لأسباب كثيرة، منها التسريح من العمل، ومطالبة البنوك لهم بسدد الأقساط الشهرية على الرغم من عدم وجود مصدر دخل أو وظيفة لهم وقت المطالبة بتنفيذ الأحكام، وذلك بالسماح بتأسيس جمعية قانونية باسم "جمعية الغارمين العمانية"، تحت الإشراف المباشر للحكومة، كحلٍ من الحلول التي تقدم بها بعض النخب والبرلمانيين وأهل الخير.
وتهدف الجمعية إلى جمع التبرعات اللازمة لفك كرب المعسرين ونزلاء السجن نتيجة الديون المتراكمة عليهم. وقد كانت المبررات التي وردت في خطاب الرفض من الدائرة المختصة بالجمعيات الخيرية، عدم وجود ضوابط رقابية كافية واضحة ومُلزمة لنظام عمل جمعية الغارمين (تحت التأسيس)، كما أوضحت الدائرة عدم وجود ضمانات بنكية للأشخاص المساهمين في الجمعية، على الرغم من عدم وجود شرط قانوني للجمعيات الأهلية ينص على ذلك الضمان!!
والسؤال المطروح الآن: لماذا تمت مصادرة طموحات أهل الخير من أصحاب السعادة أعضاء مجلس الشورى وجهودهم الخيرية والتي تمتد لعدة سنوات؟ وقبل ذلك كله ما مصير الذين أثقلتهم الديون؟ في إطار عدم قدرة الجهات الحكومية المختصة على الوفاء بمثل تلك الواجبات تجاه الغارمين من أبناء هذا المجتمع، في حين كان يُفترض في وزارة التنمية الاجتماعية أن تحرص على مصالح الناس وكرامتهم في وطنهم، والمبادرة إلى تشجيع المجتمع المدني بكل أطيافه، وتدعم جهود تحقيق التكافل الاجتماعي وتبرع المقتدرين لغيرهم في إطار التشريعات والقوانين التي وضعتها الوزارة. تابعنا جميعًا قصةً هزت المجتمع العُماني، وهي عبارة عن مأساة امرأة عُمانية (أم لطفلين) حُكِم عليها بالسجن لعدم قدرتها على سداد مبلغ وقدره 3 آلاف ريال عُماني، فكنت قد بادرت بإرسال ذلك المنشور الذي تم تداوله على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماع للعديد من المسؤولين في الوزارة المختصة بأحوال المجتمع، على أمل التدخل لإنقاذ هذه الأرملة؛ انطلاقًا مما نسمعه بشكل دائم من تصريحات عبر وسائل الإعلام حول الاهتمام بالمواطن العُماني، وتحقيق سبل الراحة والاستقرار لجميع أفراد المجتمع في هذا الوطن العزيز. لكن من المؤسف أن الجميع التزم الصمت، وكأنَّ الأمر لا يعنيهم بأي حال من الأحوال.
لقد كان قرار منع إشهار جمعية الغارمين صادمًا لي ولكثير من الناس بكل المقاييس. ويبدو أن وزارة التنمية الاجتماعية التي هي صاحبة قرار الموافقة أو الرفض، قد تحولت من جهة تنظيمية وإشرافية على الجمعيات إلى خصم مباشر لهذه الجمعيات، الخيرية منها والمهنية، فأتذكر قبل عقدين من الزمن عند موافقة تلك الوزارة على إشهار جمعية الصحفيين العُمانية، امتنعت عن تضمين واحد من أهم أهداف تأسيس مثل هذا النوع من الجمعيات المهنية على مستوى العالم؛ ألا وهو الدفاع عن مصالح الأعضاء في سبيل تأدية الواجب الصحفي والإعلامي، على الرغم من أهمية هذه الغاية، فهناك دائمًا هاجس الخوف من انفلات الأمور عن سيطرة الوزارة المختصة، وهذا باعتقادي غير منطقي وبعيد عن الواقع.
كلنا مع حماية المال العام وكذلك أموال الجمعيات الخيرية بكل أنواعها، ولا يمكن التساهل مع من يعبث بتلك الأموال أو يصرفها خارج نطاقها القانوني. لكن رفض طلب إشهار مثل تلك الجمعية وغيرها من الجمعيات المهنية غير منطقي، ولا يتناسب مع توجهات الرأي العام الذي يقوده منذ سنوات رجال مشهود لهم بالنزاهة والوطنية وعمل الخير؛ بل يستمد هؤلاء مصداقيتهم من الشعب الذي اختارهم للوصول إلى عضوية مجلس الشورى. هذا المجلس الذي يُفترض أن تكون كلمته هي العليا، لكونه مؤسسة تشريعية تقترح القوانين وتناقش التشريعات المعروضة على مجلس عُمان بغرفتيه. ويجب تذكير الجميع بأن القائمين على تأسيس هذه الجمعية قد عرضوا نظامها الأساسي منذ فترة طويلة على فريق قانوني من الوزارة المختصة؛ إذ تمت مناقشة المواد القانونية لذلك النظام؛ كما عقدوا اجتماعات مع ممثلين عن البنك المركزي العُماني لأخذ رأيهم حول وضع النظم الضرورية الكفيلة بحماية أموال المتبرعين للجمعية وصرفها للمستحقين.
من المحزن جدًا أن نسمع بين وقت وآخر دعوة بعض المثبطين للهمم والحاسدين إلى وضع قيود على العمل الخيري في السلطنة؛ ومنع المُحسنين من فك كرب الفقراء والمعسرين والمسرَّحين في بلدنا، ومبرر هؤلاء عدم الاتكالية على الغير! متناسين أنه لا توجد خيارات كثيرة للذين أوصلتهم الأقدار إلى التسريح من العمل والتي تسببت بدورها في تراكم الديون البنكية ذات الأرباح التي لا رحمة فيها؛ بل وتستمر طوال عمر الإنسان.
وفي الختام.. نتطلعُ إلى إعادة النظر في مثل تلك القرارات المُجحفة بحق الغارمين الذين ينتظرون رحمة الله التي وسعت كل شيء، فأقل ما يمكن القول عن هذه القرارات أو وصفها أنها استفزازية وصادمة للجميع، ونعوّل على تفعيل المادة 11 من قانون الجمعيات الأهلية، التي تمنح رئيس مجلس الإدارة التأسيسي لجمعية الغارمين حق التظلم لدى الوزير حول أسباب رفض الإشهار، وكُلنا أمل أن تتدخل معالي الدكتورة ليلى بنت أحمد النجار وزيرة التنمية الاجتماعية لتصحيح الوضع في إطاره المنطقي.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري