الوعي المالي الغائب

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

يقول صاحب محل اللحوم في إحدى الدول المتقدمة، مستغربا بتنا مؤخرا نواجه لصوص اللحم، بعد أن كان اللصوص يسرقون الكماليات، الناس يسرقون اللحم والطعام لإطعام أسرهم ولإسكات جوعهم، إنها أيام صعبة ومُخيفة مؤسف جدا، أن نصل إلى هذا الحد من الأزمة الاقتصادية.

يوميا نتعرض إلى المئات من الإعلانات التي تحاول إقناعنا بأن شراء تلفزيون جديد أهم من دفع فاتورة البقالة المُؤجلة، وأن عدم اتباعي للموضة في كل موسم وصمة عار وتخلف وعودة إلى عصور ما قبل النفط، فكيف لي أن أرتدي ألوان الصيف ونحن في الشتاء طبعاً المسألة صعبة!! سيضيع نصف عمري، إذا لم أسارع إلى المحل الفلاني الذي يقدم العرض المذهل وأقتنص فرصة العمر في امتلاك ثلاجة كانت قابعة بالمخزن لسنوات، ولا أعلم هل مازالت صالحة؟!

وزاد من الطين بلة، وسكب الزيت على نار الإنفاق، ما نراه كل يوم من إعلانات في وسائل التواصل الاجتماعي، من الفاشنيستات والمؤثرين بإعلاناتهم غير المسؤولة، والتي تفرش الأرض ورودا ووعودا وآمالا أغلبها تدغدغ المشاعر ونقاط الضعف، لتكتشف بعد الشراء أنك وقعت ضحية جهل واحتيال وترويج كاذب، يهدف إلى تحقيق الأرباح على حساب المستهلك والمجتمع.

أشعر أحيانا أننا في كوكب آخر منفصلون عن الواقع، فالأمور خرجت عن حد المعقول والأخلاق، ولم تراعِ الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، التي يمر بها المجتمع. فبدل أن نرى المزيد من الإعلانات المسؤولة، التي تدعو إلى الوعي المالي والادخار، وتحمل المسؤولية المالية، والإدارة الفاعلة للميزانية، نتعرض لحملة ممنهجة لصرف ما تبقى من المدخرات على الكماليات وعلى حساب الضروريات.

وفي الطرف الآخر نجد مؤسسات التمويل والبنوك، تتراخى في الجانب التوعوي للحد من استنزاف الجيوب وإيقاف مسلسل الديون المتعثرة للأفراد والمؤسسات، والخروج بحلول من هذه الأزمة بدلا من الزج بالأفراد في السجون وتدميرهم اجتماعيا ونفسيا.

ألا توجد هناك مسؤولية اجتماعية، ووعي بضرورة الحد من الاستهلاك في الكماليات، حتى تعدي الأيام الصعبة. إننا نفتقد إلى وعي اقتصادي عقلاني للتعامل مع الأزمة والتكيف مع الظروف الحالية، هناك ضرورة تغيير الوعي الاستهلاكي، في التعامل مع الدعاية والإعلان، وربطها بمصلحة المستهلك والمجتمع، من خلال طرح الاستهلاك المسؤول والرشيد، فالإعلانات تضخم من مميزات السلع والخدمات، وتغفل الجوانب الأخلاقية في التسويق والترويج، مثل تشجيع المستهلك على شراء الكماليات لا يحتاجها، وتكديس السلع أكثر من حاجته الحقيقية كأننا على أبواب مجاعة.

والترويج للسلع التي شارفت مدة صلاحيتها على الانتهاء، بخفض أسعارها دون اِلإشارة إلى ذلك، وعرض بعض من الملابس والسلع الكمالية التي بها عيوب في التخفيضات، استغلالا لواقع بأن ليس كل المستهلكين، على دراية بأن للملابس والكماليات مدة صلاحية أيضا. ناهيك عن الترويج للسلع المغشوشة أو مجهولة المحتوى في وسائل التواصل عبر الفاشنيستات المؤثرين مجتمعيًا. في حين أن الكثير من الدول بدأت تقنن العمل الإعلاني حسب الظروف الاقتصادية، لحماية المجتمع ومنع هذا الخداع، فتفرض رقابة على المحتوى الإعلاني، ومنع الإعلانات التي تحفز على شراء الكماليات، وبث رسائل توعوية بكثافة.

لقد بات من الضروري الحد من ثقافة الشراء العشوائي، ونشر ثقافة الوعي الشرائي بين المواطنين والقاطنين، لأننا مجتمعات استهلاكية من الدرجة الأولى، ونميل إلى صرف كل ما في جيبنا وجيب من حولنا فلا ضير من أن نقترض من الأهل والأصحاب لشراء شيء غير ضروري، مستغلين كرم البعض ولطفهم.

ولا يزال الإعلام يمثل أهم وسيلة تأثيرا، على العادات والثقافة والسلوك الإنساني، فمن خلال الإعلام الرشيد تتغير المفاهيم والأفكار والعادات، إننا في أمس الحاجة إلى وجود سياسات إعلامية رشيدة وإلى الإعلام الإرشادي، ومساعدة الأفراد في تجنب الوقوع، تحت مشاعر التي تثيرها وسائل الإعلان، وتحفيز قدراتهم النقدية للمحتوى الإعلاني.

في أيامنا الصعبة أصبح من الضروري حماية المجتمع من تبعات العشوائية في الاستهلاك، والجري وراء المظاهر والإعلانات الزائفة، فالبشر يتعرضون إلى الإعلام بكافة وسائله أكثر من ثلث يوم يوميا عبر الهاتف والتلفاز والإنترنت، ومع تطور أشكال الإعلام تطورت أساليب الجذب والتأثير والاحتيال والتضليل، مقابل عدم وجود حملات مضادة لحماية المستهلك من التأثير.هناك حلقة مفقودة وهي الرقابة على المحتوى الإعلاني والحد من الرسائل التي تحث على الشره الاستهلاكي.

وكما ذكرت في البداية، إننا نمر بظروف اقتصادية استثنائية، وشد الأحزمة إحدى الحلول لعبور الأزمة، عادة في ظروف كهذه تكون هناك سياسات استثنائية واستراتجيات طوارئ لحماية المجتمع من الاضطرابات الاجتماعية، لتحقيق أعلى معدل من الأمن الاجتماعي.

نسبة عالية من المجتمع تعاني لتلبية الاحتياجات الأساسية والعدد في ازدياد، لعل ما نراه ونسمعه عن حملات لإنقاذ أسر وأفراد من براثن العوز والفقر، الجهود التي تقوم بها الجمعيات التطوعية والفرق الأهلية في تأمين حاجات الناس دليل على أن المجتمع بات بأمس الحاجة إلى تعلم مهارات الوعي المالي والادخار والحد من الشراء العشوائي.

في أيامنا الصعبة، نريد أن نرى مؤسسات المجتمع المدني، تقوم بحملات توعوية في القرى والمدن وتشارك في الحملات التطوعية، وتقوم بدورها التوعوي خارج قاعات المناسبات وأروقة المؤسسات.

في أيامنا الصعبة، نحن نحتاج إلى أن نرى المؤسسات العامة، ترفع شعار تقليل النفقات على الديكورات والمكاتب الفارهة وتأجير القاعات وإقامة مناسبات بميزانيات ضخمة والمصروفات غير الضرورية، وتنفق تلك الأموال في تطوير خدماتها وتسهيلها للمواطنين والقاطنين.

في أيامنا الصعبة، نريد أن نرى البنك المركزي يصدر قوانين استثنائية، ويحث البنوك ومؤسسات التمويل بإلغاء الفوائد عن المتعثرين في السداد، من المواطنين ومن أصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة والمسرحين والمتقاعدين والموظفين من ذوي الدخل المحدود وغيرهم، وإعادة جدولة القروض بدل إرسالهم إلى السجون، أو عرض ممتلكاتهم للبيع في المزاد وتشريد أسرهم.

وكما يقول ابن خلدون: "إن الأيام الصعبة هي التي تصنع الرجال الأقوياء الذين يصنعون الرخاء والترف.."، في أيامنا الصعبة نتمنى ألا نرى المتعثرين في السجون ولا متعثرين بالديون.