د. يوسف بن حمد البلوشي
ثمَّة ارتباط قوي وعلاقة وطيدة بين نمو قطاع الأنشطة الخدمية ونمو الاقتصاد بشكل عام، وهناك زيادة مضطردة في متوسط مساهمة الخدمات في الناتج المحلي الإجمالي والقيمة المضافة في مختلف الاقتصاديات، لا سيما خلال العقود الثلاثة المنصرمة.
وتؤكد الإحصائيات أن التجارة في الخدمات تنمو بمعدلات أسرع وأكبر من التجارة في السلع وهي أكثر مرونة. ولقطاع الخدمات العديد من التأثيرات المباشرة وغير المباشرة على شركات الإنتاج والتصنيع؛ حيث إن مساهمتها في إجمالي الصادرات تقترب من الثلثين؛ سواءً كانت خدمات مساندة أجنبية أو محلية.
وفي السياق المحلي، وعلى الرغم من النمو المتواصل للاقتصاد العماني، إلّا أن هذا النمو لم يرتبط بشكل مباشر بنمو القدرات النوعية والإنتاجية لشركات القطاع الخاص، وظلت على صبغتها التقليدية في الاعتماد الكبير نسبيًا على استيراد السلع والخدمات، لتلبية الطلب المحلي المتولِّد من الإنفاق الحكومي. وتسجل السلطنة عجزًا مزمنًا في اقتصاد (أي حساب) الخدمات، وهنا يتعين إدارة ملفاته بفكرٍ متجددٍ والأخذ بأسباب التصحيح المطلوبة.
ونظرًا لمحدودية مساحة المقال، سأقتصرُ على التطرق إلى الملامح البارزة لقضية قطاع الخدمات، هاضمين بذلك حقه في دراسة أبعاده وتشابكاته رقميًا وتحليليًا بنوع من التفصيل والعمق الذي يستحقه، آملين أن يكون ذلك حافزًا لمتخذي القرار- ولغيرنا من الباحثين- لدراسة المحاور المطروحة بشكل معمق وتقديم الحلول التي تعزز من دوره في المرحلة المقبلة.
الأرقام الإحصائية المنشورة من قبل المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، والمتصلة بميزان المدفوعات العماني- الذي يرصد التحويلات المالية بين الاقتصاد العماني والاقتصاد العالمي- ويعده البنك المركزي العماني، تُشير إلى أن متوسط أداء حساب الخدمات للفترة من 2017 إلى 2021، يُظهر خروج ما يقارب 4 مليارات ريال عُماني من الاقتصاد المحلي، لتلبية الطلب المحلي على الخدمات المختلفة، نذكر منها- على سبيل المثال لا الحصر- خدمات النقل بنحو ما يقارب مليار و600 مليون ريال عماني، وخدمات السفر للأغراض المختلفة كالسياحة والتعليم والعلاج بحوالي 700 مليون ريال عماني، وخدمات التأمين بـ400 مليون ريال عماني، والخدمات المالية بـ127 مليون ريال عماني، وخدمات الاتصالات والخدمات المتصلة بها بنحو 155 مليون ريال عماني، وخدمات أخرى بقيمة 616 مليون ريال عماني.
هذا الأمر يدلل على الأثر الكبير لقطاع الخدمات في عجز الحساب الجاري في ميزان المدفوعات، وخروج العملة الصعبة من الاقتصاد المحلي، وزيادة الضغوط على الريال العماني المرتبط بسعر صرفٍ ثابتٍ مع الدولار الأمريكي. وذلك يدعو إلى الاهتمام بقطاع الأنشطة الخدمية وبناء قدرات وطنية في هذا الشأن.
وتشير التجارب العالمية إلى أن قطاع الخدمات يزخر بقدرات كبيرة للمساهمة في حل مشكلة الباحثين عن عمل (البطالة) محليًا وعالميًا، من خلال زيادة معدلات التوظيف في الاقتصاد ككل وفي هذا القطاع على وجه الخصوص.
وتُشير بيانات البنك الدولي إلى أن قطاع الخدمات يُمثِّل أكبر جهة توظيف في جميع البلدان الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، كما إن قطاع الخدمات في ظل تزايد تيارات العولمة يتبوأ أهمية خاصة في الدول النامية، بالمقارنة مع قطاع السلع؛ حيث تنمو صادرات الخدمات بوتيرة أسرع بكثير من البلدان المتقدمة، وقد زادت حصة البلدان النامية في صادرات الخدمات العالمية من 12% في عام 1980 إلى 21 في المائة عام 2016.
وفي ظل الجاهزية التي تنعم بها السلطنة على مختلف الأصعدة، هناك حاجة ملحة للتحلي بالجسارة وتشغيل قاطرات الخدمات، وعلى رأسها قطاع السياحة، والنقل بأنواعه، والشحن، والتأمين، وتهيئة الموارد البشرية الوطنية، مع وضع الأسس والأطر الضرورية كي يستطيع الأفراد والشركات المحلية تقديم الخدمات للعالم، والاستفادة مما تتيحه التغيرات المتسارعة في العالم من فرصٍ لمن يريد ان يكون جزءًا من سلال الخدمات العالمية، إلى جانب تقديم خدمات للعالم بدلًا من الاعتماد على الأسواق المحلية المحدودة.
وإذا أردنا أن نكون أكثر تحديدًا، فتشغيل قطاع اللوجستيات- على سبيل المثال- يستوجب وجود منظومة متكاملة تربط جميع الأطراف، وتوفِّر بيانات دقيقة يستعين بها متخذو القرار ومقدمو الخدمة لتحسين ورفع كفاءة القطاع.
ونختم بالقول إن التحول إلى الاقتصاد المعرفي الذي نسعى إليه في سلطنة عُمان، مرتبطٌ بدرجة كبيرة بحجم الخدمات المقدمة والمحتوى المعرفي في مختلف القطاعات والأنشطة الاقتصادية، ويشمل استخدام التراكم المعرفي وتسخيره لإنتاج منتجات وخدمات جديدة، وتقنيات متطورة، في مختلف الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية. كما إن التحول إلى الاقتصاد المعرفي، يتطلب العمل على تغيير تركيبة وهيكل العمالة إلى العمالة الماهرة، والإنفاق على التدريب والتأهيل، وأنشطة البحث والتطوير؛ وصولًا إلى منتجات ذات محتوى معرفي وتكنولوجي مرتفع.