المعتصم البوسعيدي
عندما كنَّا صغارًا في ربيعِ العمرِ نلهو ونلعب ونجري، كان هو يلبس "دشداشة" عمه، وعمامة والده، يسوق عربة المسؤولية، ويشقى في العملِ -وهو على كرسي الدراسة- من أجلِ لقمةِ عيش هانئة، ثمَّ ما لبِثَ أن ترجَّل العم وتركه يكبر قبلَ عمره، وحين عادَ الأب من رحلةِ الغربة، ما فتئ الفرح يتسلل إليه، حتى باغته اليتم والرحيل الموجع، فتصدرَ مشهد "العلوية" بجلبابِ الجد والأب والأخ الأكبر، وتد الخيمة، وطود البيت، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ففقدَ رفيق الدرب "سراج الأمل" ليكون لبيتِ أخته سراج الرحمة المُنير، كما ورحل العم الثاني تاركًا ضريرًا عصاه هو، نعم هو ياسر كفيل اليتامى ووكيلهم وراعي البيوت التي أصبحَ ظلها الظليل بلا تأفف أو صوت آه أو شكوى قدر قاسِ؛ على العكس -تمامًا- كان مُؤمنًا بعطاءِ ربه، بهي الطلةِ على الدوامِ مُبتسمًا لا تفارقه ملامح الفرح والسعادة.
ياسر الذي أعرف لا يُمكن لحبرِ الروح أن يوفيه حقه ولو كان مِدادَه بحر المشاعر والأحاسيس، ياسر فيصل المعرفة الكبرى، وناصر الأخ والرفيق، وأحمد الخصال الحميدة، ومحمد السيرة الندية، وسليمان خاتم الوعي والإدراك، وسلطان الرأي والحكمة، ياسر فاطمة الزهراء المُورِقةِ بالمحبة، وهدى الطريقِ إلى الغدِ المُشرق، ياسر مريم الجذع الذي تساقط رطبًا جنيًا؛ تساقطَ كعبد للرحمن علِمَ أنه عبد الله الممتحن، فشكره وحمده على نعمائهِ التي لا تحصى، وآلائهِ التي لا تستقصى رغم تحدياتِ الحياةِ وقسوةِ المسؤولياتِ الجسيمة، ياسر الخضرة المزدهرةِ في شموخِ قلعتِها، وسر الماء المتدفقِ من فلج يجري شريانه بين "السككِ" والبساتين.
ياسر الفريق الذي حمله على كتفهِ ليرقى به ذرى الفخرِ والاعتزاز، ياسر ميدان العمل والمثابرة والتضحيات، وصوت طلقةِ البندقيةِ على جبهةِ السلبيات، ياسر "روي" البحث عن الإبداعِ والابتكار، "ومطرح" جوال الليل والنهار، ياسر قنينة العطر وعبق العود في رفقة السيارة أو عند مراكبِ الإبحار، ياسر "معدة" الحفر في أرض قاحلة قاسيةِ التربةِ والأحجار، ياسر مبادرة العطاءِ وسيلِ الانهمار، ياسر ميدان متكامل، وغرفة أنارت العتمة وريان الأشجار، ياسر رسالة الهاتف "عصام" نحن هنا "وعي" الحصيرِ وجلسةِ العصرِ عند الغروبِ وسجدة الصلاةِ ودعاء الأسحار، ياسر منتزه الكرمِ الباذخ، ومسجد الصدقةِ ومصلى العيدِ والجنائز، ياسر المركز الثقافي الذي لم يرَ النور، ياسر الفكرة التي لا تموت، ياسر سعي الألفةِ وقنديل درب القوم الأخيار، ياسر بين السماء والأرض صانع قادة، وموقد شرارة "حي على الفلاح" للوطنِ الجميلِ خير الديار.
"لهف نفسي ما الذي أقعدني" عن اتصال للاطمئنانِ عليه في ليلة كانت الأخيرة لصحبة في دنيا فانية، أجلته لصباح لم تشرق بعده شمس ياسر؛ فقد ذهبَ للمكان الذي يُحبه والطريق الذي يألفه، وعلى تلةِ الطموحاتِ انتظر ياسر في المحطةِ الأخيرة، فإذ بقطارِ الموتِ يقله نحو الرحلةِ الأبدية التي أقلت قبله عيسى وحمود وحمد وعبدالله والعم علي وغيرهم من قبل ومن بعد، "فَمِنْهمْ مَّنْ قَضَىٰ نَحْبَه وَمِنْهمْ مَّنْ يَنْتَظِر"، لينتهي فصلٌ من فصولِ الرماية والأهداف المتحققة بعرقِ ياسر والرفاق، وأنا هنا، أنثر حروفي المتعبة والفاقدة لذة الكتابة منذ النبأ المؤلم، موقنًا برحمةِ ربي وعدلهِ ولا مفر، فتلك ودائع الرحمن ردها إليه، وإنا إليه راجعون إلى آخرِ مستقر، فوداعًا ياسر، وداعًا أيها الأخ والصديق المعتبر، وستظل فينا باقيا؛ مررتَ على صفحةِ الحياةِ "وهذا الأثر".