ابحث عن نفسك (1)

 

 

د. سلطان بن خميس الخروصي

sultankamis@gmail.com

لا تُولد الإنجازات إلا من رحم الطموح والمثُابرة، ولا تتحقق الأماني إلا بالتجلُّد والمقاتلة، ولا يتذوَّق لذة تحقيق الأهداف إلا من جعل من نفسه وعقله رقماً صعباً في مصفوفة الأعداد الصحيحة، ومن الطبيعي جدا أنْ يتلقَّى من له أهداف سامية في حياته جُملة غفيرة من الصَّدمات والآلام والانكسارات، إلا أنه من غير الطبيعي أن ينثني قوام ظهره فيُسلِّم رقبته لمقصلة البؤس وإقبار نفسه ومواهبه وأهدافه الحالمة.

والمصالحة مع النفس والقناعة بقيمتها والإيمان بأنها جزء أساسي لا تكتمل الصورة إلا بها، هي جسر العبور نحو جمال الحياة وبريقها المتلألئ، فلا ترضى لنفسك إلا ما يجب أن تكون عليه، وليس عيبا أن تكون قد فرَّطت في اكتشافها لسنوات طويلة بل العيب أن تستمر على ذات الشاكلة، وكما قيل: "عصفور في اليد خير من ألف على الشجر"، فأطلق العنان لنفسك وقلبك وعقلك؛ لتكتشف من أنت وتضع قدميك على المربع الصحيح؛ فالألف ميل تبدأ بخطوة، فكيف أكتشف نفسي؟

قد تتَّفق معي فيما أحد الصحابة رضوان الله عليهم: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا"؛ فهذه القاعدة ترفع الحرج عن قلبك وعقلك في الانطلاقة الصحيحة لتحقيق الذات بكل جدارة ومسؤولية واتزان لتكون إنسانا أفضل مما أنت عليه الآن، فمرورك بتجربة قاسية في حياتك وإحساسك بآلامها ومعاناتها وقدرتك على تجاوزها ومواجهتها، وارتقاؤك لتكون روحا آدمية أكثر إحساسًا وشفافية ونضجا ورُقيَّا هي بحد ذاتها إنجاز يفتقده الكثير من البشر الذين قد يصلوا إلى مرحلة إنهاء حياتهم واسترخاصها فلا تستصغر نفسك.

يُمثِّل اكتشاف الذات أحد أبرز الإنجازات المصيرية في حياة الإنسان، والأهم من ذلك القناعة بأنك تستحق الأفضل والأجمل والأرقى، وهذا البحثُ النوعيُّ يتطلب عددًا من المسارات والخطوات الواقعية البعيدة عن المثالية، والتي يمكننا أن نوجز بعضها في التالي:

1. قوِّ شخصيتك باستعراض شريطك الزمني؛ حيث ينبغي أنْ تضع لأهدافك وطموحاتك شريطا زمنيا ليكون مسارك واضحا، فاستعرض شريط حياتك بكل حسناته وسيئاته، ولا تتجاهل ما تعتقده نقطة سوداء أو مواقف غير مُشرِّفة أو مشاهد مُزعجة ومُؤلمة، فما يُحدِّثُك به قلبك وأنت تتجاهله سيظل كالجبل على صدرك وقد يكون في مرحلة قادمة حجرَ عثرة أمام تحقيق أحلامك الرفيعة، قلِّب شريط حياتك فما كان مُفرحا وإنجازا عزِّزه وافتخر به واسعَ لتمكينه وتطويره، وما كان مزعجا ومؤلما ومُخزيا -برأيك- تعلَّم منه وعاهد نفسك بأن تتجاوزه بالحكمة والعبرة والاستفادة من أخطائك، لكن إياك أن تَلعن الظلام وتعاتب الزمن، فكل المواقف بحسناتها وسيئاتها وحلوها ومرِّها هي رصيد خبرتك الأساسي في حياتك، والمكوِّن الجوهري في تكوين شخصيتك وليس انعكاسا لفلسفة المجتمع وثقافته؛ فاصنع من نفسك رقما قويا؛ فالهدف من مراجعة محطات حياتك ليس التباكي واللوم واستنزاف أيامك الجميلة، بل التعمُّق في معرفة المشكلات وتوضيح أسبابها ومعالجتها بكل قوة واقتناع وانشراح؛ فهي وحدات بنائية قوية لشخصيتك.

2. ثق بأفكارك عن أفكار الآخرين: "اقبل شخصيتك كما هي" قاعدة أطلقها أدريان كلافاك، مؤسس منظمة النمو الذاتي وأحد أشهر المدربين المهنيين في الولايات المتحدة الأمريكية، ويبرر ذلك بقوله: "عندنا في الولايات المتحدة الأمريكية، ثقافتنا لا تدعم الناس دعمًا حقيقيًّا في التعرف على أنفسهم واكتشاف مواهبهم وشغفهم وشخصيتهم الفريدة. نحن في الأساس جميعًا مشغولون جدًا ولا تترك ضغوط العمل والمسؤوليات لنا وقتًا لمتابعة مشاعرنا أو التعرف على هوياتنا، يجب أن تأخذ الوقت الكافي لمعرفة ذاتك"، قد يجد البعض من المنطق أن يمضي قدما وفق معادلة الحياة المعتادة "واقع الحياة"، فيذهب إلى المدرسة أو الجامعة أو العمل، ثم يتزوج ويمضي وفقا لما ورثه من أفكار والديه أو مجتمعه أو أقرانه حتى تنتهي الحياة فجأة! دون أن يخلق مساحة لأفكاره وآرائه وقناعاته ومعتقداته الخاصة؛ فالمجتمع بطبيعته يمجد "الأبطال والعمالقة" وهم في رأيك "أقزام"، والمجتمع يستصغر "الفاشلين" وهم في رأيك "حالمون ناجحون"، والمجتمع ينبذ "الغُرباء" وهم بقناعتك "مواطنون صالحون". فحينما تفكر بما تراه وتعتقده "أنت" دون الانقياد لأفكار ومعتقدات الآخرين، فأنت تقف على المربع الصحيح لاكتشاف نفسك، فحاول أن تفكر بعمق واتزان بذاتك وتجرَّد من تبعية الإيمان المطلق بأفكار الآخرين وتقديسهم إن لم تكن مقتنعا.

3. ثق بنفسك بكل قوة: "مهما فكرت في نفسك، فأنت أقوى مما تخيل"، و"واثق الخطوة يمشي ملكاً"، و"الثقة بالنفس هي روح البطولة"، إن الثقة بالنفس هي القاعدة الصلبة التي يمكن أن تخلق منك شخصية عظيمة لذاتك وأسرتك ومحيطك المجتمعي، وعكس ذلك فأنت تقف على أرضية مهتزة قابلة للانهيار في أي لحظة، قد تكون تعرَّضت للاضطهاد أو الظلم أو التهميش...وغيرها من مطبَّات الحياة؛ فمن الضروري أن تتعلم من تلك الموقف بكل روح رياضية ونفس إيجابية، وهذا المعنى الحقيقي للخبرة والتعلُّم من تجارب الحياة؛ فلا تعتقد أن الطموح والآمال والأهداف طريقها مفروشة بالورود والبساط الأحمر؛ فليس من الصواب أن تتجاوز آلامك ومطبات حياتك الدقيقة جدا والمحبوسة بين جنبات قلبك دون معالجتها والتصالح معها؛ لأنها ستظل تنبض بالحياة المزعجة بين حين وآخر، عليك تجاوزها بكل قناعة وبصورة دائمة وقاعدتك في ذلك أن تتعلم منها وأنها محطة لابد من المرور عليها وتجاوزها؛ فلا تترك الأمر للزمن حتى يعالجها أو للصدف لتنسيك إيها، وأنت تعلم يقينا أنها في قلبك وعقلك فتُخادع نفسك، فبما أنك ستعيش مرة واحدة في هذه الدنيا فأَقبِل عليها بكل رحابة صدر لتحمُّل المسؤولية ومعالجة الخطأ بكل ثقة وإيمان وقناعة.