كهف أفلاطون

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

 

في الفصل السادس من كتاب "الجمهورية" لأفلاطون، يصف فيه مجموعة من البشر يعيشون في مسكن تحت الأرض، أشبه بالكهف ولدوا فيه مكبلين بالأغلال، لا يستطيعون التحرك من أماكنهم، أو رؤية أي شيء آخر؛ لأنهم غير قادرين على تحريك رؤوسهم، فلا يرون غير ظلال الذي أمامهم، الناتج عن انعكاس ظل بسبب النار المشتعلة خلفهم، هؤلاء لا يرون سوى الظل ويسمعون أصواتاً غريبة لا يعرفون مصدرها.

طيلة حياتهم ستكون هذه التجربة هي المصدر الوحيد لمعارفهم لأنهم غير قادرين على الخروج أو التحرك، لكن ماذا لو استطاع أحدهم أن يفك الأغلال والخروج واكتشف أنَّ هناك معارف أخرى ومفاهيم جديدة هل سيُصدقها؟ هل سيستطيع الوقوف أو تحريك رأسه دون أن يشعر بالألم؟ هل سيتمكن من إقناع سكان الكهف بأنَّ ما رآه حقيقة وأن الحياة مختلفة عما يرونه؟

ما يحدث في حياتنا لا يختلف عمّا حدث لسكان كهف أفلاطون، فإنَّ العادة والفكرة التي كررناها طوال حياتنا تصبح هي الحقيقة الوحيدة الصحيحة، وأية فكرة جديدة تعد غريبة ومؤلمة، كالألم الذي شعر به أحد سكان الكهف بعدما فك الأغلال، وخرج من الكهف، ورأى ما رآه لأول مرة، فكرة مُغايرة عن واقع الكهف، ولا يمكن تصديقها بسهولة، خصوصا وأن الجميع قد أعتبر الفكرة الأولى واقعه الوحيد.

الكثير من الأفكار تحتاج إلى إعادة الاكتشاف بخروجنا من كهف الفكرة النمطية، مفهوم الوظيفة في الحياة الحديثة، بعد تطور الحضارات الإنسانية إلى مرحلة الصناعة، تغير مفهوم الوظيفة إلى ساعات عمل مُعينة، لدى مؤسسة ما مقابل أجر أو منفعة متفق عليها، وفي هذه المرحلة بالذات ظهرت مفاهيم جديدة للإنتاج والاستهلاك، مدعومة بالفكر الرأسمالي، الذي غيَّر من مفهوم العبودية التقليدية إلى مفهوم العمال والموظفين، الذين تستنزفهم آليات الإنتاج الضخمة، بقضاء أجمل سنين حياتهم في العمل دون تحقيق الثراء فعلياً، يظل فيها الإنسان رهين المعاش وتحقيق الاحتياجات الأساسية لا غيرها، حتى يصل إلى مرحلة التقاعد .

مفهوم الوظيفة أو الاستخدام نشأ مع انتقال الإنسان، من مرحلة الصيد إلى مرحلة الزراعة، وتجمع الناس في القرى والمدن وظهرت فكرة المجتمعات، التي بدأت تستهلك موارد غذائية بشكل كبير وسلعاً أخرى أساسية، كلها دفعت إلى ظهور المهن المختلفة والحاجة إلى الأيدي العاملة للوفاء باحتياجات السكان .

في العصر الحديث أصبح الإنسان مكبلًا بالوظيفة، يعمل طوال العام لساعات طوال مقابل إجازات قليلة لا تذكر، ففي بعض المجتمعات لا تزيد مدة الإجازة عن ثمانية أيام، خلال العام، غير تعرضه للضغوطات النفسية والمهنية والاجتماعية، التي كانت من أسباب تفكك أهم نواة في المجتمع وهي الأسرة النووية، يذهب بعض الباحثين إلى أن الوظيفة والطموحات المهنية والصراع من أجل الترقي واستدامة الوظيفة من أسباب التفكك الأسري، والضغوطات التي تعاني منها الأسرة اليوم، فبسبب الأعباء الوظيفية والمهنية، يقضي الإنسان جل وقته من أجل لقمة عيش، وجمع الأموال من أجل تأمين قوت المستقبل.

إن الوظيفة داء عصري روّجت له الرأسمالية، تحت مسميات كثيرة منها تحقيق الذات والاستقلالية المالية وجمع الثروات، فحولت الفرد من إنسان يبحث عن قوت يومه إلى إنسان متوتر خائف من المستقبل ومديون، لأنه ينفق أكثر ممّا يحتاج أصلًا، في أمور صورت له ثقافة الاستهلاك أنها ضرورية.

من عيوب الوظيفة بشكلها الحالي، أنها تسرق وقت الأسرة والحياة الاجتماعية، فيبتعد الإنسان عن طبيعته وإنسانيته المعهودة، فبعد أن كان يعمل في الحرف والأعمال البسيطة والاقتصاد المنزلي، حسب مواهبه وقدراته وإمكانياته تساعده في ذلك الزوجة والأبناء، تم تلقينه مفاهيم جديدة عن فكرة العمل، وكسب المعاش وهي البحث عن العمل بأجر.

من أبرز المبادئ التي قامت عليها الرأسمالية "دعه يعمل ..دعه يمر" هذا المبدأ روج له وزير التجارة الفرنسي في القرن الثامن عشر، وهي تنادي باستقلالية التجارة وعدم تدخل الحكومات في الاقتصاد، وكانت من نتائجها المؤسفة ظروف العمل السيئة، التي عانى منها العمال نتيجة استغلال أرباب العمل، فاضطرت الحكومات إلى التدخل، وفرض أنظمة تحمي العمل والمستهلك.

في النظام الرأسمالي أصبحت الأجور قليلة، والبطالة مرتفعة وتجمعت الثروات في نسبة ما يقارب الواحد في المئة من سكان العالم، بمعنى أن تسعين في المئة من السكان، يعمل ليُحقق الثراء لواحد في المئة من البشر.

الحياة الحديثة ساعدت على التفكك الأسري، وانتشار حالات الطلاق والانفصال والعزوبية، فقد حولت الأسرة إلى أفراد منفصلين يخدمون أهداف الرأسمالية كأدوات إنتاج، دون النظر إلى أضرار ذلك على المجتمع، وعلى صحة الإنسان الجسدية والنفسية، فلم تعد الأسرة الممتدة موجودة في المدن والمجتمعات المتحضرة، حتى الأسرة النووية التي تُعد نواة المجتمع الإنساني تحولت إلى أسرة مفككة، لا تتواصل حتى وهم تحت سقف واحد بسبب وسائل التواصل الحديثة .

ويرى علي عزت بيغوفيتش أن الحضارة المعاصرة كانت لها اتجاه سلبي نحو الأسرة والزواج، فقد ساعدت على الانفصام الأسري وانفصال أفراد الأسرة الواحدة؛ حيث نرى أنَّ الأم تعمل في الشرق والأب في الغرب، ويستمر الانفصال لعقود من الزمن وينشأ الأبناء دون أبوين.

يقول نعوم تشومسكي "إن الفرد في عصرنا الحديث باع أعز ما يملك، عمره وصحته ومواهبه كي يسد احتياجاته الأساسية وإثراء فرد آخر".

وفقًا للرأسمالية يكمن دور الأسرة في إنتاج العمال لا أكثر ولا أقل، فلا قيمة حقيقية لنواة المجتمع غير كونها مفرخة تغذي نهم عجلة الإنتاج.

أصبحنا نُدمن العقاقير والأدوية لعلاج القلق وأمراض العصر الناتجة عن الحياة الحديثة؛ فالوحدة والخوف والاكتئاب، كلها أمراض أصيب بها إنسان اليوم لأنَّ المال أصبح أكثر أهمية من حياة الإنسان؛ فالمجتمعات الحديثة مجتمعات اختارت الهروب من قسوة الواقع، بالأدوية والعلاجات المختلفة التي تدر أرباحًا هائلة على الرأسماليين.

في وقت مبكر من القرن العشرين، لم يكن العمل الصحفي يدر دخلًا كافيًا، فاضطر الصحفي إلى البحث عن فرصة عمل في القطاع الحكومي، وانتقل من مؤسسة حكومية لأخرى، وبعد عدة وظائف قرر الاستقالة، وكتب مقالًا اعتبر فيه الوظيفة الحكومية، شكلًا من أشكال العبودية الحديثة، في ذلك الوقت كان يبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا، ووصف قراره حينذاك بأنه "قرار ثوري"، على اعتبار أنه قد يكون أول موظف يستقيل بمحض إرادته.. إنه الأديب عباس محمود العقاد الذي شعر خلال وقت قصير، أن الوظيفة عبءٌ كبير يستهلك من روح الإنسان.

للحياة مساحات جميلة أجمل من أن نستهلكها في الجري وراء وهم الوظيفة، التي يمكن أن تحقق الثراء بعد أن نفقد كل ما نملك.