◄ ما عاد ثمة موجودان أحدهما من الأعلى يُعرف بالروح والآخر من الأسفل يُعرف بالبدن
محمد بن رضا اللواتي
وعدتُ القارئ العزيز بأن أُطلعه على التغيرات التي وقعت في حقل فلسفي يختص بالبحث حول صلة الجانب المادي والمتمثل في الجسد بجانبه اللامادي والمتمثل في الروح، وذلك عندما أقتحمت "الحكمة المتعالية" هذا البحث بأدوات مختلفة للتحقيق، نتجت عن ذلك تغييرات جذرية، فكما زالت الثنائية بين "المتحرك" و"الحركة"، زالت كذلك بين "الروح" و"الجسد" اللذين تصورتهما الرؤى الفلسفية المختلفة ومنذ أزمنة غابرة بكينونتين مختلفتين عن بعضهما تمام الاختلاف.
في هذا التصور الجديد، يُعد الروح "بُعد" من أبعاد الكينونية البشرية، يتم تحصيله من خلال "الحركة" التي تقع في أعماق العالم. "الروح نفسها نتاج قانون الحركة، وهذا القانون مبدأ لتكون المادة نفسها، والمادة قادرة على أن تربى في حجرها موجودا يضاهي ما وراء الطبيعة، ولا يوجد في الحقيقة حائل يحول بين المادة وما وراء الطبيعة، ولا مانع من أن تتحول المادة بعد اجتيازها لمراحل الرقي والتكامل الى موجود غير مادي". (أنظر: مطهري، مرتضى: أصالة الروح، ترجمة: محسن علي. ص18).
ما عاد ثمة موجودان أحدهما من الأعلى يُعرف بالروح، والآخر من الأسفل يُعرف بالبدن، التقيا من غير ميعاد مسبق، ليعيشا غربة غريبة فيما بينهما إلى أن يفترقا عبر مفرق الموت. كلا. وإنما هنالك كائن واحد، ذو شخصية واحدة، يمضي في طريق التكامل من أسفل العوالم إلى أعلاها وجودا. كائن "جسماني الحدوث روحاني البقاء". (أنظر: الشيرازي، محمد بن إبراهيم: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ج8ص334).
ومعنى ذلك، أن الكائن المادي "يتحول إلى روح في سيره التكاملي، وليست الروح شيئا آخر يحل في البدن حال وجوده، ويغادره حال موته. تبدأ الحركة التكاملية الجوهرية للنفس من أدنى مراتبها المادية الجسمانية، حتى تبلغ أعلى مراتبها العقلية التامة". (انظر: لزيق، كمال إسماعيل: مراتب المعرفة وهرم الوجود عند ملا صدرا. دراسة مقارنة. ص389) .
وبتوضيح من بور: "في هذا الإطار تأخذ الروح العاقلة بعدا ماديا مع المادة وعقلانيا مع العقل. هذا التصور يدخل في إطار نظرية الشيرازي للوجود والحركة الجوهرية. وتحظى الحركة الجوهرية إذن بمكانة مركزية في فلسفة الشيرازي، إلى جانب نظرية الوجود. تهدف الحركة الجوهرية أولا إلى غاية متعالية: إنها تربط العالم الأرضي بالعالم السماوي، إنها تقود المادة إلى العقل وتقود المتعدد إلى الوحدة وتجعل من الظهور حقيقة واقعية، وتنقل بالنقص إلى الكمال.. الكائن الناقص والرهين بالعدم يستطيع فقط عن طريق تجديد متواصل وتنمية ذاتية أن يأمل في حياة أبدية. الحركة الجوهرية هي إذن السبب في التقلب الإنساني. وأيضا السبب في تصميم ذاتيته عبر أطوار الوجود التي عَبَرَها، والسبب كذلك، في الانقلاب الكلي والرجوع إلى الله في ثوب الإنسان الجديد." (انظر: بور، رضا حاجت: ماهية الكمال وفكرة الحركة الجوهرية عند الشيرازي. مقالة ضمن: نظرات في فلسفة ابن سينا وملا صدورا الشيرازي. ص250).
وكما جرت العادة في تعاطينا بالأفكار التي لم نعتد عليها، حَسَبَ البعض هذه الأطروحة تمرد على النصوص الدينية الثابتة، واستحق "صدر الدين" بذلك تعاملا تعسفيا جدا محفوفا بالتهم التي تنم عن وَجَل أصحابها مما هو جديد وثوري ومختلف، رغم أن الرجل كان قد عرض عدة من آيات الكتاب المجيد تدليلا على رؤيته، من ذلك قوله تعالى: "ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" (المؤمنون 14). فعبر الحركة تحولت النطفة إلى علقة فمضغة فعظاما فلحما، إلا أن هذه الإضافات جميعا لم تستحق أن يُعبر عنها "بخلق آخر" لأن هذه الإضافات لم تقع خارج دائرة المادة، ثم حدث وأن اكتسبت المادة الجامدة واقعية مختلفة تماماً استحقت أن يُعبر عنها "بخلق آخر" وتلك الواقعية الأخرى هي اكتساب البُعد الروحي، كما أن أغلب المفسرين لهذه الآية عدّوا "الخلق الآخر" عبارة عن إضافة ونفخ الروح في الكيان المادي الميت.
إذن رحلت وفق هذا التصور الغُربة، إذ نحن أمام كيان واحد، كان بالأمس تمراً وحنطةً، وبقفزات الحركة العميقة انتقل من طور إلى طور حتى بلغ رُتبة اكتساب البُعد التجريدي. هذا التصور يستطيع أن يُفسر سِّر هذه العلاقة الحميمية بين هذين البُعدين للكيان الواحد.
والمهم هُنا ليس هو أن نتفق مع هذه الأطروحة- وغيرها من الأفكار الثورية التي لم نعتد على مضامينها- أو نختلف معها، وإنما المهم هو كيفية التعامل معها. لعلنا نكون في حاجة إلى ما يُسمى اليوم "إبستمولوجيا الفضيلة" التي تدعو إلى "التواضع الفكري" بالسماح للنفس لفسح المجال للاستماع إلى فكر آخر، وأطروحة مختلفة، عوضا عن التعامل مع الإبداعات المعرفية بما يسمونه "بالغطرسة الفكرية" أو "التُخمة الثقافية" التي لا تفسح أدنى مجال للاستماع إلى رأي نظنه لا يتناسب مع أفكارنا.