ماذا قالت فاطمة؟!

 

 

علي بن سالم كفيتان

فاطمة.. ريحانة من الزمن الجميل، فتحت عينيها على المروج الخضراء الممتدة إلى الأفق، تعشق جمع الزهور، وملاحقة العجول، والبحث عن الفِطر بين جنبات الغابة، تستمع لقطرات المطر المتساقطة من على أوراق الأشجار، تُحب أن تلفها الغيوم البيضاء المندفعة من ذلك المحيط الهائج؛ لتتراقص جدائل شعرها على وجهها الملائكي المكسو بالخجل والحشمة، فتمضي فاطمة ويمضي معها العمر تنتظر في محطات وتغادر أخرى؛ ليظل ذلك البيت الريفي المصنوع من حجر الأرض وخشب الميطان "الزيتون البري"، هو أفضل المحطات؛ حيث أبي وأمي ولفيف إخواني ودفء جدي.. كما تقول فاطمة.

أحلامي تجوب الفضاءات الواسعة، وتستريح على السهول الفسيحة.. أنظرُ بكبرياء لذلك الصقر الذي يشرب الهواء في السماوات البعيدة، ويحدق بعينيه الخاطفتين ليمسح بهما الأرض التي أسكن عليها، إنه لا يبحث عني بكل تأكيد؛ بل عن حمامة ذات عنق مخطط وريش ناعم جميل وصوت يُوحي بالإلفة والحب، وفي مرات كثيرة أجدُ الريش المتناثر بين الأشجار، فأعلم أن ذلك القادم من بعيد استخدم مخالبه الحادة لوأد أحلام الحمامة، فكنتُ أبكي وأبحثُ علِّي أجد أبناءها لأُطعمهم نيابة عنها، وعندما أعود في المساء منفوخة العينين من شدة البكاء، تُوبِّخني أمي وتمنحني درسًا حول نظرية البقاء للأقوى التي لم أكن مقتنعة بها حتى اليوم.. كما تقول فاطمة.

كان جدي ربيبَ نعمة، فلدينا قطيع كبير من الأبقار الحلوب، في ذلك الزمن المر لا يخلو بيتنا من ضيف مقيم أو عابر، فتعلمت منهم لهجات ظفار المختلفة، وبنيتُ صداقات عابرة مع بنات عابرات للزمن مع أسرهن الآتين من المدينة أو القادمين إليها، لا صوت يعلو فوق صوت جدي في هذا المقام الرفيع؛ حيث الأرض تمنحك العزة والكرامة بترابها الأحمر القاني أحيانًا، والأسود الحالك في أحيان أخرى. ننتظر بشغف عزف الأشجار لسيمفونية الخريف وتسابقنا للالتجاء خلفها وإيقاد النار وطبخ الشاي وخبز الحجر، كما يفعل الكبار، كلها كانت أحلام غدت اليوم جزءًا من الماضي.. كما تقول فاطمة.

يذكُر الراوي أن السلطان زار قريتنا وأكرمه جدي في ذلك النهار؛ فقد كانت زيارته تفقدية، وطلب استدعاء شيخ يُعرف بحكمته ونفاذ بصيرته، ودار بين السلطان وذلك الشيخ حديث طويل بحضور جدي، لم أكن أعرف من هو السلطان؛ لكنني رأيت العسكر والخيول والجمال في ركبه. غادرنا قبيل العصر عائدين إلى المدينة، سمعتُ فيما بعد أنه يخطط لزيارة مكان بعيد ويرغب في اصطحاب شيوخ ووجهاء في هذه الرحلة. سكن الليل وتحلق الرجال حول النار ولا حديث إلا عن زيارة السلطان لقريتنا، لا بُد أنها كانت سابقة تاريخية سيطول الحديث عنها بين هؤلاء الرعاة.. كما تقول فاطمة.

ذات مساء، كنا نلعب لعبة النار؛ حيث تمسك الواحدة منا عود متقد يعلوه لهب وتحوله للأخرى، ومن تنطفئ عندها النار تخبر الأخريات بفارس أحلامها، فكم هي لعبة مُحرجة، لكنها كانت شيقة. وفي تلك الليلة، انطفأت النار في يدي ثلاث مرات، ورغم ذلك لم أُحدد فارس أحلامي؛ كوني لم أكن أفكر في الأمر بعد، ومع كل مرة أطلب الاستئناف، ويُسمح لي، لتنطفئ النار في يدي مجددًا، علمت فيما بعد أن هذا نذير الزواج.. كما تقول فاطمة.

عاد الصقر ليحوم حول الدار، فحضر رجل ومعه شاب طويل القامة جميل المحيا باهي المبسم، يعتمر خنجرًا، وبيده بندقية، إنها علامات الرجولة في ذلك الزمن. ذهبتُ لمهماتي المسائية، تركتهما مع أبي وجدي، وعند العودة وجدتهم قد أجهزوا على بقرة وجميعهم ملطخون بدمائها، والمرجل يغلي، والحضور تعلوهم ابتسامات عريضة، سحبتني أمي بعيدًا لتخبرني أنني تزوجت ذلك الشاب الوسيم المنتمي لأسرة عريقة، توقف الدم في عروقي لبُرهة، ثم عاود للجريان، شعرت بخدر في أطرافي وبحاجة للبكاء؛ لكنني صمتُ وحبستُ دموعي، فذهبتْ أمي وبقيتُ واقفة كشجرة يابسة في ذلك المكان، وكما يقال إنه قدر كل بنت أن تقترن برجل، ومن تلك اللحظة أصبحتُ سيدة منزل وعمري لا يتجاوز العشرين، عشتُ كل اللحظات الجميلة والمُرّة مع ذلك الرجل النبيل، طوينا كل الصفحات وبقت صفحة واحدة.. كما تقول فاطمة.