الشراكة بين العرب والصين

حاتم الطائي

زيارة الرئيس الصيني إلى المنطقة تمهّد لانطلاقة جديدة للعلاقات البينيّة

ضرورة تفعيل الشراكة الاستراتيجية بين عُمان والصين لتحقيق المنافع المشتركة

البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية مضخة تمويلية مهمة يتعين الاستفادة منها

التغيرات الجوهرية في النظام العالمي تفرض على العرب تعميق الشراكات مع الصين

"الحزام والطريق" مبادرة تنموية كبرى وركيزة استراتيجية لعلاقات أوثق مع "التنين"

الصين من أقوى دول العالم تأييدًا للحقوق الفلسطينية ورفضًا للتدخلات الغربية في المنطقة

 

على مدى عقودٍ ممتدة، حافظت الدول العربية والخليجية، وخاصة سلطنة عُمان، على علاقات مُتميّزة مع جمهورية الصين الشعبية، بفضل التَّعاون الوثيق في مختلف المجالات، لا سيما الاقتصادي منها؛ إذ تشهد التبادلات التجارية بينهما معدلات نمو وصلت في نهاية العام الماضي إلى 330 مليار دولار؛ لتحتل الدول العربية مجتمعةً المركز السابع ضمن قائمة الشركاء التجاريين لثاني أكبر اقتصاد في العالم، وهو مؤشر جيِّد على عمق العلاقات الاقتصادية بين الدول العربية والصين.

ومع الاستعدادات المتواصلة للزيارة المُرتقبة التي سيقوم بها الرئيس الصيني شي جين بينج إلى المملكة العربية السعودية، تتجه الأنظار إلى القمم الثلاثة المقرر عقدها؛ إذ سيتم عقد قمة سعودية صينية، وقمة خليجية صينية، وقمة عربية صينية، وهنا نُدرك مدى الاهتمام الصيني بالعلاقات مع دول المنطقة، وسعي كل الأطراف من أجل تعميق هذه العلاقات بما ينعكس على مسيرة التَّعاون فيما بينهم. ولا شك أنَّ الدول العربية وفي ظل ما يشهده العالم من تغيرات استراتيجية وتحديات جيوسياسية، تحتاج إلى مزيد من توطيد العلاقات الثنائية مع مُختلف الدول، وعلى رأسها الصين، خاصة عندما نستشرف مُستقبل النظام العالمي القائم حاليًا، والمُهدد في تركيبته القائمة على منظومة أُحادية القطب، بينما تتجه الأمور إلى منظومة دولية مُتعددة الأقطاب، سيكون للدول العظمى فيها دورٌ مؤثرٌ.

إذن نحن نتحدَّث عن علاقات تتجاوز الشق الاقتصادي منها، لتنتقل إلى الرؤى الاستراتيجية بعيدة المدى، وكيفية توظيف الاقتصاد ليكون القاطرة التي تدفع بمسيرة التعاون الثنائي إلى آفاق أرحب، تكون فيها العلاقات بين الدول العربية والصين قائمة على الشراكة الاستراتيجية، وليس فقط المصالح الاقتصادية الآنية. وخير دليل على ذلك، مشروع الحزام والطريق، وهي المبادرة التنموية الأضخم في العالم، والتي تسعى الصين من خلالها لبناء أسس راسخة ومتينة من التعاون مع شتى الدول التي كان يمر بها طريق الحرير سابقًا، ومن بينها سلطنة عُمان ودول عربية عدة. ومثل هذا المشروع سيكون بمثابة ركيزة استراتيجية كبرى تنبني عليها علاقات تعاون وشراكة أعمق وأوثق.

وإدراكًا من الصين لطبيعة وأهمية علاقاتها مع الدول العربية، أصدرت في يناير 2016 "وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية"، تقع في 4300 كلمة، وتتألف من مقدمة رصينة تشرح رؤية الصين للدول العربية وما توليه من اهتمام بتوثيق التعاون، إلى جانب خمسة أجزاء رئيسية تفصّل طبيعة هذا التعاون ومدى إمكانية تعزيزه "على نحو شامل"، على حد وصف الوثيقة. وهذا الأمر يعني ببساطة أن الصين- كدولة عظمى- ترى في الدول العربية مقومات وإمكانيات واعدة وكبيرة للغاية للتعاون وتحقيق النمو والازدهار.

والشاهد في العلاقات العربية الصينية، أنها ترتكز على جوانب أخرى غير الجانب الاقتصادي وهو الأبرز والأقوى بلا منُازع، ومنها الجانب السياسي، والذي يغفُل البعض عنه، ليس من منطلق أنَّ الصين تريد نفوذًا سياسيًا في العالم العربي، ولكن من حيث الدعم الصيني الكبير للقضايا السياسية في المنطقة العربية، فالصين كانت- وما زالت- واحدة من أقوى دول العالم تأييدًا للحق الفلسطيني وفق مقررات الشرعية الدولية، وتجلى ذلك في مواقف لا حصر لها، والصين دائمًا وأبدًا مع وحدة التراب العربي، ومعارض شرس ضد أي محاولات غربية لتقسيم المنطقة أو تفتيتها أو احتلال أيٍ من دولها، وقد شاهدنا ذلك- على سبيل المثال لا الحصر- فيما يتعلق بالأزمة السورية، وكيف تصدت الصين مرارًا وتكرارًا لقرارات في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، وتحوّل "الفيتو الصيني" إلى شوكة في حلوق من أرادوا بالأمة السورية شرًا مُستطيرًا، مهما اختلفت الآراء حول طبيعة الوضع في سوريا أو آليات المُعالجة، وكذا الحال فيما يتعلق بقضايا أخرى سواء في العراق أو السودان أو ليبيا أو اليمن، فقد ظل الموقف الصيني راسخًا في تأييده لوحدة التراب العربي ورفضه التام لأي نوعٍ من التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للدول. ولذلك أعربت الدول العربية مرارًا عن تأييدها ودعمها لسياسة "الصين الواحدة" دون أي تجزئة ورفضًا لأي توجه يتعارض مع هذه السياسة الوحدوية الجديرة بالاحترام والتأييد.

والسؤال المطروح الآن وقبل أيام من القمم الثلاثة المُشار إليها سابقًا: ما الذي يتعين على العرب والصينيين القيام به من أجل مزيد من التعاون وترسيخ العلاقات على نحو يُحقق التطلعات والآمال؟

الإجابة عن هذا التساؤل تنقسم إلى شقين؛ الأول: سياسي، والثاني: اقتصادي. أما فيما يتعلق بالجانب السياسي، فثمَّة أفكار نطرحها هنا علّها تجد سبيلها إلى التطبيق، من بينها: إمكانية تأسيس كيان سياسي يجمع الصين والدول العربية، يعمل على دراسة القضايا المشتركة وبحثها ووضع الحلول المُناسبة، واتخاذ القرارات الموحدة؛ إذ لم يعد "منتدى التعاون الصيني"- الذي تأسس قبل 17 عامًا تقريبًا، يتواءم مع طبيعة العلاقات المتطورة حاليًا، وباتت الحاجة ماسّة لإنشاء مجلس تعاون عربي صيني، يستهدف في الأساس بناء المواقف المشتركة وتنسيق السياسات على نحو أعمق وأشمل مما هي عليه الآن، على أن تكون الأهداف الجوهرية لهذا المجلس التحوّل نحو نموذج تعاوني قائم على الشراكة الاستراتيجية ووحدة الأهداف التي تحقق المصالح المشتركة، ويُعزز جهود التعاون في جميع المجالات التي ما زال الطرفان لم يحققا التقدم المأمول فيها؛ منها على سبيل المثال: التعاون البحثي في مجالات العلوم الحيوية، وتوطين التكنولوجيا، وتطوير التعاون الثقافي بما يضمه من مجالات رئيسية مثل الإعلام والسينما؛ إذ يظل التَّعاون في هذا الجانب بروتوكوليًا بحتًا، ولا يتجاوز حدود الزيارات المتبادلة أو تنظيم المنتديات والملتقيات التي لا ترقى ومستوى العلاقات المتقدمة. والحال لا يختلف في المجال الرياضي، فرغم براعة الصين في الرياضات الأولمبية وحصدها للكثير من الميداليات، وتبنيها سياسات تطوير رياضي عميقة الأثر، إلّا أنَّ الدول العربية لم تستفد من هذا التقدم، ولم نشهد تعاونًا رياضيًا مُؤثرًا بين الصين والدول العربية، لا سيما إذا علمنا أن الصين تنفذ استراتيجية رياضية طموحة تستهدف مستويات متقدمة، خاصة في الألعاب الفردية. ومن هنا فإن مجالات التعاون غير الاقتصادي واسعة ومتعددة ويجب الاستفادة منها.

الشق الثاني، وهو الشق الاقتصادي، يُظهر أن العلاقات الاقتصادية بين الدول العربية والصين تعتمد في الأساس على التبادلات التجارية؛ حيث إنَّ الدول العربية أكبر مُصدِّر للنفط الخام إلى الصين ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم، بينما تُصدِّر دول الخليج إلى الصين مشتقات الوقود ومنتجات كيماوية عضوية، ولدائن اصطناعية، وسيارات وعربات، والألومنيوم ومصنوعاته، وفقًا لإحصاءات خليجية رسمية.

ونظرًا لأنَّ العلاقات الاقتصادية بين العرب والصين ترتكز على التبادلات التجارية، فما الذي يمنع من التوصل إلى اتفاقية للتجارة الحرة بين الصين والدول العربية، وخاصة الخليجية لما تمثله من ثقل اقتصادي وتجاري. كما إنَّ من شأن انضمام الدول العربية إلى "منظمة شنغهاي للتعاون" من شأنه أن يُسرِّع من وتيرة نمو العلاقات، فضلًا عن إمكانية البحث في إنشاء رابطة تجارية تجمع العرب والصين.

بقي أن أشيرُ- على نحو خاص- إلى العلاقات العُمانية الصينية، وما تتسم به من قوة، لا سيما بعد اتفاق الجانبين في مايو 2018 على ترفيع العلاقات الثنائية وإعلانهما قيام الشراكة الاستراتيجية بين البليدين، علاوة على ما تتمتع به الدولتان من علاقات ضاربة في عمق التاريخ، تمثل مصدر فخر لكلا الجانبين؛ الأمر الذي يمكن البناء عليه بهدف تحقيق تقدم ملموس في التعاون الثنائي، من خلال التفعيل الحقيقي لهذه الشراكة الاستراتيجية، كي لا تظل مجرد "إعلان مشترك" صدر قبل سنوات، ومن ثم يتعين تعزيز التعاون والشراكة في مجالات واعدة ومؤثرة للغاية مثل: الاقتصاد الرقمي واقتصاد الخدمات ومجالات التصدير المختلفة، وبناء شراكات متينة في مشاريع الطاقة المتجددة، والاستفادة من الميزات الاستراتيجية، وبالتحديد مدينة الدقم الواعدة، التي ستكون- بإذن الله- واحدة من المراكز الاقتصادية المهمة في المنطقة خلال السنوات المُقبلة.

ونظرًا لأنَّ عُمان واحدة من الدول المؤسِسة للبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية والذي يتخذ من العاصمة الصينية بكين مقرًا له، فثمّة مجالات أرحب للتعاون والاستفادة مما يقدمه البنك من تمويل ائتماني منخفض الفائدة، سيُساعدنا في تلبية الاحتياجات التنموية المتزايدة، خاصة مع تفعيل نظام المحافظات الجديد وما يتضمنه من تأكيد على تسريع وتيرة التنمية وتنفيذ العديد من مشروعات البنية الأساسية التي ما زال الكثير من الولايات في حاجة إليها، ومنها مشاريع إمداد خطوط المياه والصرف الصحي، ومشاريع بناء المجمّعات العمرانية المتطوّرة، ولنا في مدينة "الطِيب" النموذجية مثالًا يُحتذى.

ويبقى القول.. إنَّ آفاق التعاون والشراكة الاستراتيجية بين الدول العربية والصين، واعدةٌ ومُبشّرة، لكنها تستلزم اتخاذ القرارات المناسبة التي تدفع بمسار هذه العلاقات نحو مزيدٍ من الازدهار والفاعليّة؛ بما يتماشى مع طبيعة المقوِّمات الاستراتيجية، ويُلبي التطلعات الشعبية، ويحقق المنافع المأمولة على المستويات كافةً.