لغز المفقودين

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

 

الأمن أساسُ تطوُّر المُجتمعات وازدهار الأمم، وإذا فقد الإنسان الأمن والأمان والاستقرار في وطنه؛ فَقَدَ كل مقومات الحياة الكريمة، وانتقلَ بذلك إلى مرحلة القلق والتوتر والخوف من المجهول الذي ينتظره، فيكون بذلك قد خَسِر أثمن ما في هذا الوجود وهي نعمة الأمن والأمان اللذيْن لا يقدران بثمن في هذا الكون، فلا نتخيل حياة كريمة لأي شعب دون منظومة أمنية متكاملة تحمي الأرواح والممتلكات والأعراض.

وقد بادرت الحكومة الرشيدة ومنذ عقود عديدة لتوفير الأمن والاستقرار لكل أبناء هذا الوطن الغالي، وكذلك الوافدين من مختلف دول العالم؛ إذ يعيش في السلطنة عشرات الجنسيات من مختلف دول العالم؛ الذين قدِموا للعمل أو السياحة والاستثمار. وقد كان لبلادنا وما زال سجل مشرف يُكتب بماء الذهب، ليس على المستوى الإقليمي؛ بل على المستوى العالمي؛ إذ سُجلت سلطنة عُمان في الخانة الصفرية ولمدة 8 سنوات على التوالي في مجال مقاييس خلوها من الأعمال الإرهابية، في منطقة تعاني في الأصل من الحروب والتفجيرات الإرهابية بين وقت وآخر. وبفضل الله وفضل القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- ومن قبله السلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- أصبحت عُمان واحة السلام والاستقرار في الإقليم، وهذه الحقيقة بات يعرفها القاصي والداني في هذا العالم المترامي الأطراف؛ فالتنمية والازدهار الاقتصادي وجهان للاستقرار النفسي والاجتماعي للمجتمعات المعاصرة.

وعلى الرغم من ذلك، فإنّ فقدان 3 من أبناء محافظة ظفار في أقل من 3 أشهر ألقى بظلاله على بلدٍ تُضرب فيه الأمثال بالاستقرار الأمني والسلم الاجتماعي، ذلك لكون بلدنا يختلف عن غيره من بلدان العالم التي تشهد حوادث مؤسفة. وبمجرد إعلان شرطة عُمان السلطانية عن فقدان المواطن الثالث لعدة أيام وإضافته لقائمة المفقوديْن الاثنيْن اللذيْن لم يجد لهما أثر عين منذ 8 يوليو 2022؛ ساد الحزن أرجاء محافظة ظفار وراود البعض القلق من هذا الأمر، لكن الحمدلله- وأثناء كتابة المقال- أصدرت شرطة عُمان السلطانية يوم السبت بيانًا بالعثور على المواطن الثالث وهو على قيد الحياة.

لا شك أن أبناء ولايتي طاقة وصلالة قد بذلوا جهودًا جبارة- بجانب جهود الجهات المعنية- في البحث عن المفقودين في مختلف الأماكن المجاورة للولايتين، خاصة في الأودية والحقول الزراعية والسهول والشواطئ ولمدة طويلة، على أمل العثور عليهما أحياءً أو أمواتًا لا قدر الله. لكن شاءت الأقدار استمرارية البحث عنهم حتى الآن، باستثناء المواطن الثالث الذي عُثر عليه يوم السبت. الغريب في الأمر أن المواطنيْن أحدهما من ولاية طاقة، بينما المفقود الثاني من ولاية صلالة؛ فُقدوا في نفس اليوم!!

أما المواطن الثالث الذي كان قد فُقِدَ الأسبوع الماضي، فهو موظف حكومي ومتزوج وله أسرة وأطفال، وبادر بتوصيل عائلته إلى أهل زوجته في منطقة السعادة بولاية صلالة قبل يوم من فقدانه، وقطع الوعد على نفسه بأن يرجع لهم في أول أيام إجازة العيد الوطني كي يأخذهم إلى رحلة أو نزهة خارج الولاية، وقد كان حاضرًا في المسجد في صلاة العشاء يوم 27 نوفمبر؛ ثم أصبح من المفقودين في اليوم التالي الموافق 28 من الشهر الماضي. ولله الحمد أنه عُثِر عليه حيًا.

لقد ترددتُ كثيرًا في كتابة هذا المقال لحساسية الموضوع من جانب، وندرة المعلومات عن مصير المفقوديْن من جانب آخر؛ لهذا اتجهت إلى العديد من الشيوخ والوجهاء في المحافظة، ثم إلى بعض القادة المتقاعدين من شرطة عُمان السلطانية من أصحاب الخبرات في هذا المجال، وتربطني بهم جميعًا صداقة قديمة؛ فكان هناك استطلاع أو عصف ذهني عبارة عن سؤال استنتاجي عن مصير من يتعرض للفقدان، فعلى الرغم من شعوري الشخصي بوجود أمل أن الاثنيْن ما زالا على قيد الحياة في مكانٍ ما، إلّا أن الخلاصات والإجابات التي حصلت عليها ربما تشير لعكس ذلك، نظرًا لطول فترة الغياب؛ إذ تمحورت الاستنتاجات حول احتمالية ارتباط الأمر بجرائم غامضة، لم يتم التأكد منها حتى الآن!

وللأسف في ظل غياب أي بيانات رسمية أو تصريحات لمسؤولين حول مثل هذه الحوادث، باتت الساحة الشعبية بيئة خصبة لانتشار الشائعات، وخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي التي تنتشر فيها الشائعات كالنار في الهشيم دون رقيب؛ منها شائعات ربما من المنطقي أن نسمع بها في دول أخرى ينعدم فيها الأمن أو يأتي في مراتب متأخرة، لكن في سلطنتنا الحبيبة الآمنة، لا يمكن تصديق مثل هذه الشائعات، والتي يجب التصدي لها بقوة لأنها إن صحّت- لا قدَّر الله- فهذا أمر يستدعي اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لحماية الوطن من أي أخطار.

لا شك أن الشائعات التي كان وما زال يتناقلها الناس عبر الألسن سرًا من أخطر الرسائل التي تهدد استقرار الشعوب والبيوت الآمنة، وذلك لما تحمله هذه الأكاذيب من مضامين هدّامة وأفكار شيطانية، لكونها تعمل خلف الستار وتُنفَّذ من قبل أشخاص مجهولي الهوية يهدفون إلى زعزعة الأمن الاستقرار وتحطيم الروح المعنوية للمجتمعات من الداخل؛ خاصة في أوقات الأزمات والأوبئة الفتاكة والحروب.

وهناك مقولة شهيرة تقول: "إذا اختفت الحقيقة انتشرت الشائعة". والشائعات بشكل عام تنتشر على نطاق واسع بين أفراد المجتمع، بسبب عدم التدقيق والبحث عن مصدر المعلومة.

وفي علم الاتصال الجماهيري، ثمّة قاعدة علمية عددية تحكم آلية انتشار الشائعة، وتتجسد في عنصرين أساسيين؛ هما: الغموض والأهمية، فإذا لم تكن للشائعة المتداولة أهمية تذكر في النواحي الاجتماعية أو الاقتصادية أو الأمنية، فإنَّ الغموض وحده لا يُعد كافيًا لإحداث الشائعة ونشرها في الآفاق. وهكذا إذا افترضنا أن الغموض أو الأهمية صفر؛ فلن تكون هناك شائعة؛ وعليه فإن خفض درجة الغموض أو الأهمية أو كليهما يقلل من شأن وقوع الشائعة.

من هنا نلتمس من الجهات المختصة التي تتعامل مع ملف المفقودين سرعة الكشف عن المعلومات والحقائق المتوفرة والتي تتعلق بهم أولًا بأول، عبر إفادات صحفية عن عمليات البحث والتحقيق، وذلك لقطع الطريق على مروجي الشائعات التي تهدف إلى تقويض المجتمع من الداخل.

وفي الختام، نتضرع إلى الله أن يُرجع المفقوديْن إلى ذويهما سالمين، وأن يجعل هذا البلد آمنًا مستقرًا وسائر بلاد المسلمين.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري