د. مجدي العفيفي
كراسي السلطان قابوس حول العالم
(9)
وإذا كان السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- قد أثار ثقافة الأسئلة في الواقع المحلي، وفي الإطار العربي، بمشروعاته الكبرى ذات التأثير البعيد، وبمبادراته الثقافية ذات العمر الطويل، فإن عطاءات هذا الفكر تمتد لتتحاور مع العقلية الغربية، حوار التكامل والتفاعل، والأخذ والعطاء، حوار الحضارات لا صراع الحضارات، وهو ابن حضارة عمانية عربية إسلامية، ضاربة في عمق الزمن والتاريخ، لها جذورها وبذورها، و أصولها وفصولها، وثوابتها ومتغيراتها.
أرَّق السلطان قابوس، كإنسان عربي وكحاكم وراعٍ للأمة، أن تظل كثير من إشعاعات الحضارة العريقة الإسلامية، داخل جدران ذاتها وزمانها ومكانها، ومن ثم كان سعيه المتفاني، إلى خلق أماكن مُنيرة، في مراكز علمية عالمية مستنيرة، تشعل مصابيح الفكر في بقاع شتى من العالم، تمثل إضافة لبنة جديدة في صرح الشخصية العربية والإسلامية لدى العالم الخارجي، في إصرار متجدد على إزالة آثار النظرة غير الموضوعية التي يتصدى لها العرب والمسلمون، خاصة في دول أوروبا وأمريكا.
(10)
في مارس من عام 2003 بجامعة «ملبورن» الأسترالية أنشئ «كرسي سلطان عمان للدراسات العربية والإسلامية» تعزيزًا لرؤيته من أجل قضايا السلام والتفاهم المتبادل والتسامح في العالم، وتأكيدًا على التزامه بوسيلة الحوار ضمن لعُمان علاقات ودية مع كل جيرانها ومع مختلف الدول في الشرق والغرب، وليؤدي الكرسى إلى تقوية العلاقات الحالية بين السلطنة وأستراليا على نحو وثيق في مختلف المحافل، ليس فقط على المستوى الدولى ولكن أيضًا على المستوى الإقليمى من خلال رابطة الدول المطلة على المحيط الهندي، كخطوة إيجابية أخرى نحو إقامة مجتمع عالمي يعيش في سلام ويسوده التفاهم المتبادل والتسامح.
وجاء إنشاء «أستاذية سلطان عمان في العلاقات الدولية» بجامعة هارفارد بمدينة بوسطن الأمريكية، ليعمل على إجراء البحوث وتدريس العلاقات الدولية المعاصرة مع التركيز على دور التعاون الإقليمي والدولي وتشجيع تطوير الدراسات الأكاديمية المتقدمة في المجالات ذات الصلة بإسهامات السلطنة في العلاقات الدولية وتكريس التواصل الفكري والتفاهم بين الأكاديميين وصناع السياسات في السلطنة والولايات المتحدة وعبر المجتمع الأكاديمي دوليًا، ويشمل كرسي الأستاذية - الذي تم تعيين الدكتور جوزيف ناي ليكون أول من يشغله - تخصصات الدراسات المتقدمة عن التعليم والأبحاث الدبلوماسية، والتفاوض وحل النزاعات بالطرق السلمية، وتنمية المرأة، والاقتصاد السياسي والتنمية الاقتصادية، والطاقة والموارد الطبيعية والاستثمار المحلي والدولي.
وقد وقعت الحكومة العمانية في شهر أكتوبر من عام 1999 اتفاقًا مع كلية جون إف كيندي للدراسات الحكومية بجامعة «هارفارد» الأمريكية على إنشاء كرسي الأستاذية عن طريق تأسيس صندوق ثابت تستثمر عائداته لدعم وتمويل كرسي الأستاذية والذي يتم تمويله من قبل وزارة الخارجية العمانية وبعض الجهات الحكومية وعدد من الشخصيات ومؤسسات القطاع الخاص بالسلطنة، وتتبدى أهمية هذا الكرسي أنه في الوقت الذي يعاني فيه العالم من الصراعات وسوء الفهم يفخر شعب سلطنة عمان بتخصيص هذا الكرسي؛ ليسهم في إثراء الحوار بين الحضارات بهدف تعزيز التفاهم بين الثقافات لما فيه منفعة وخير المجتمع الدولي بأسره.
وفي جامعة «جورج تاون» بالولايات المتحدة الأمريكية، أوقف السلطان قابوس عام 1981 كرسيًا لخدمة الفكر العربي والإسلامي في مجال دراسة «البشريات» من علوم لغوية وأدبية وتاريخية، تنبع أهميته من أنه «يعطي شيئًا من الثبات لهذه الدراسات، فالفائدة التي يجنيها العالم العربي من ذلك هو تثبيت هذه الدراسات إلى الأبد؛ لأن التمويل الذي يقدم لدعم مثل هذه الدراسات، يجعل من الصعب المساس بها، وهذا الثبوت مهم جدًا للصورة العربية في الخارج، لجعل الدراسات العربية ترسي قواعدها، إرساءً تامًا وكاملا، ولا أحد يستطيع التصرف بها، وبذلك تعطى الدراسة شيئًا من الرفعة والشهرة والإجلال» هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن هذا الكرسي العماني، ينم عن رغبة متجددة من السلطان قابوس، في مواصلة التفاعل الحضاري بين شعوب الأرض على وجه العموم، وإنارة الفهم الحقيقي لجوانب من الثقافة العربية ظلت مخبوءة بل محجوبة عن إدراكات الكثيرين من شعوب العالم وثقافاته، وقد تم اختيار جامعة «جورج تاون» حتى يبث الكرسي من خلالها شعاعًا عربيًا عصريًا؛ لأنها إلى جانب كونها جامعة عريقة، لديها المعهد العربي المستقل والوحيد بالولايات المتحدة الأمريكية الذي يمنح شهادات جامعية، ثم إنها الجامعة الوحيدة التي تمنح شهادات البكالوريوس والدراسات العليا في اللغة العربية.
(11)
ثمة كرسي في علوم الصحراء بجامعة الخليج في مملكة البحرين، يحمل اسم «السلطان قابوس للاستزراع الصحراوي» منفردًا بمهمة علمية في مجالات دراسة الصحراء، متجاوزًا البرامج التقليدية لمكافحة التصحر، ومركّزًا على التعامل التكنولوجي مع الصحراء من خلال ثلاثة أنساق علمية هي الاستزراع الصحراوي والهيدرولوجيا وإدارة الموارد المائية والبيئية والصحراوية، مستفيدة من التعيينات الحديثة وتطوير قاعدة البيانات وتبادل الخبرات وتنمية الصحراء في دول الخليج. ولم يكن إنشاء كرسي السلطان قابوس لعلوم الصحراء في جامعة الخليج، إلا ضرورة من الضرورات التي تستجيب لترجمة فكر السلطان قابوس، خصوصًا أن 59% من مساحة دول مجلس التعاون الخليجي، هي أرض صحراوية، ولا مفر من إجراء حوارات علمية، ومصالحة تكنولوجية مع الصحراء، لاستزراعها واستنبات مخبوئها، وتحويلها بقدر الإمكان، إلى واحات خضراء. وتعميرها - بقدر المستطاع - لتتمتع بها الأجيال القادمة.
وشهدت أواخر عام 2005 تدشين كرسي للأستاذية في مجال إدارة المياه والتنوع الاقتصادي باسم «كرسي السلطان قابوس لإدارة المياه والتنوع الاقتصادي» في «أكاديمية روزفلت» التابعة لجامعة «اترخت» في «لاهاي» بهولندا والذي قررت الحكومة الهولندية إقامته عرفانًا منها بالجهود الخيرة للسلطان قابوس وإسهاماته في ترسيخ دعائم السلام والتعاون الدولي، ودوره البناء في إرساء أسس التنمية ودولة القانون والمؤسسات العصرية في السلطنة، والتقدير الدولي الواسع النطاق الذي يحظى به جراء سياساته الحكيمة وتتويجًا للعلاقات الطيبة التي تربط بين البلدين.
وفي عام 2005 قدم السلطان قابوس منحة مالية لإنشاء كرسي أستاذية دائم للغة العربية المعاصرة بجامعة «كامبريدج» البريطانية باسم «كرسي صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد للغة العربية» بكلية الدراسات الشرقية، كما قدم منحة إضافية لكلية «بيمبروك» التابعة لجامعة كامبريدج لدعم إرسال بعثات تعليمية على مدى عشر سنوات للحصول على درجة الزمالة في الدراسات العربية والإسلامية من جامعات الشرق الأوسط لإثراء الدراسات الشرقية بجامعة كامبريدج. ويؤكد إنشاء هذا الكرسي إيمان السلطان قابوس بدعم الحوار والتفاهم بين دول وثقافات العالم وبالتالى ساهم في تأسيس كراسي أستاذية أكاديمية متشابهة في مواقع مختلفة من العالم؛ ليساهم في تحقيق هذا الهدف النبيل، لا سيما أن اللغات أيا كانت هي بمثابة كيان حي يستوجب الرعاية والاحترام ويعكس الأفكار وتتفاعل مع الرؤي، وأن ما يحتاجه عالمنا اليوم بشدة هو فهم وقبول الآخر، وأن التقنية الحديثة هي بمثابة هبة للإنسانية، وبالتالى يتعين تطوير اللغات واستخداماتها لكي تستوعب العلوم والتقنيات الحديثة، وقد وصف المراقبون تلك المنح بأنها تعد الجامعة مركزًا أكاديميًا ممتازًا لتدريس اللغة العربية منذ قرون وأنها لن تعزز تدريس اللغة العربية المعاصرة لطلبة الجامعة فحسب، بل وفي المملكة المتحدة عموما، وأن السلطان قابوس عرف عنه دعمه المتواصل والبارز على المستوى الدولي في تبادل الاستفادة بين الثقافات من خلال الإنجازات العلمية والأكاديمية وتشجيع جلالته للبحث العلمي.
(12)
ومن الغرب أوربيًا وأمريكيًا، إلى الشرق عربيًا وأسيويًا، تتخذ كراسي السلطان قابوس مكانها ومكانتها العلمية والثقافية، وتشغل هذه المرة مساحته في جمهورية الصين الشعبية، بإنشاء «كرسي السلطان قابوس لدراسات اللغة العربية» بجامعة «بكين» عام 2007 من أجل تدريس اللغة العربية وآدابها للدارسين الصينيين، وتشجيع البحوث العلمية في مجال اللغة العربية وآدابها وثقافاتها وعلى وجه الخصوص الجوانب المرتبطة بالسلطنة وتعزيز التعاون الثقافي بين مؤسسات التعليم العالى في البلدين، وتأتي دلالته من أن اللغة العربية تحظى باهتمام كبير من قبل الأكاديميين والباحثين المعنيين الصينيين، فضلا عن الطلبة، بناء على العلاقات التاريخية والحضارية التي تربط الصين الشعبية بالسلطنة، وأن احتضان جامعة بكين لهذا الكرسي يأتي في إطار الاهتمام الذي توليه هذه الجامعة للغة العربية التي تعد دراستها أحد أقسام كلية الدراسات الأجنبية الموجودة بجامعة بكين وقد صار عمره الآن 60 عامًا.
رحم الله السلطان قابوس رحمة واسعة.