الريادة.. العمل قبل الأمل

 

خليل بن عبدالله الخنجي **

 

قصص ريادة الأعمال كثيرة، بدأتُ بمتابعتها شخصيًا منذ تخرجي في العام 1985 في جامعة "يونيفرستي أوف نورثرن كولورادو" الأمريكية بتخصص الإدارة الصناعية والتكنولوجيا، وقد درست في هذا التخصص الجديد -في حينه- منذ ربيع عام 1981، ومن خلال هذا التخصص مارستُ عدة مهن عملية في الحدادة والنجارة والكهرباء والإلكترونيات إلى جانب المحاسبة والكمبيوتر والإدارة وغيرها، وصاحب ذلك زيارات ميدانية إلى مواقع تجارية وصناعية في ولاية كولورادو ذات الثلوج الشتوية؛ حيث تنخفض فيها درجات الحرارة إلى 40 درجة تحت الصفر.

في الغربة درست وزملائي، بينما كانت التحديات تحيطنا من كل صوب بدءًا من اللغة الإنجليزية باللهجة الأمريكية التي كانت أساس الدراسة؛ حيث تعلمتها في مدرسة اللغة الإنجليزية الشهيرة Bridge School في مدينة دنفر عاصمة ولاية كولورادو، وذلك مع نهاية العام 1979. ومن تلك التحديات التي واجهتنا هو البعد عن الوطن والبيت والبيئة والثقافة والطعام؛ حيث الوجبات الأمريكية المتمثلة في البرجر والووبر والبجماك والبيتزا والمعكرونة والتي استبدلنا بعضها بطبخ الأكلات العُمانية حيث استلمنا وصفات طبخها من أمهاتنا وجداتنا. هكذا هي حياة الاغتراب تصنع من المستجدين في الحياة رجالًا معتمدين على الذات متعددي التخصصات والمواهب كنَّا نتعلم بعضها على مقاعد الدراسة والبعض الآخر على رأس العمل في الورشة والمختبر والمعمل والمطبخ وغرف غسيل وكي الملابس، كلها مهارات مهمة تجعل أصحابها مستعدين لكل المواقف والظروف الصعبة.

بعد تخرج دفعتنا في عام 1985، عُدنا إلى أرض الوطن لنساهم في البناء مع من سبقونا؛ حيث توجه البعض إلى العمل الحكومي، والآخر- وأنا منهم- إلى القطاع الخاص؛ حيث عملت في تجارة العائلة تحت إشراف الجد والوالد وأخواي محمود ونجيب، الذين تخرجا في بريطانيا وأمريكا على التوالي؛ حيث تم تعييني في قسم العقارات في المجموعة، كمتدرب أولًا، ومن ثم ترقيتُ لأكون مسؤولًا ومشرفًا على العقارات، والتي تضم كذلك أعمال المقاولات ومتابعة الأمور المتعلقة بالبلديات والوزارات والإيجارات وصيانة المباني وتحسين إدارتها ومتابعة شؤون وراحة المستأجرين وأفراد عائلاتهم، وغيرها من الأعمال التي تخص شؤون العائلة، كل ذلك تحت متابعة لصيقة من قبل الإدارات العليا في الشركة.

بجانب العمل المكتبي المعتاد توليتُ لاحقًا مهمة مجلس الخنجي بعد وفاة جدي ووالدي في 1989 و1991 على التوالي؛ حيث قمنا- كعائلة- بإعادة فتح المجلس ببيت الخنجي التاريخي في حلة العرين بولاية مطرح، وخصوصًا في شهر رمضان الفضيل، والذي نتشرف فيه باستقبال ضيوف الرحمن على موعد الإفطار في كل يوم من أيام رمضان المبارك؛ حيث يجتمع أفراد العائلة والأصدقاء من التجار ورواد الأعمال والجيران علاوةً على السفراء المُقيمين في البلاد ومديري الشركات والمصارف والمستثمرين الزائرين، ويصاحب ذلك نقاشات مستفيضة حول التحديات والحلول المقترحة لكل مشكلة، بجانب تخصيص أيام لصاحبات الأعمال والأطباء والمهندسين وزملاء الدراسة في المدرسة السعيدية.

علاوةً على الليالي الرمضانية في مجلس بيت الخنجي عملت على استضافة عدد من الوزراء في جلسات نهارية خاصةً منقولة على صفحات جريدة الشبيبة بحضور الشابين اللطيفين محمد بن علي البلوشي وعيسى المسعودي ومن أشهر الجلسات في مجلس الخنجي، جلسة خاصة مع معالي مقبول بن علي سلطان وزير التجارة والصناعة- آنذاك- والذي تحدث خلالها عن المشروع الصناعي العملاق في ميناء صحار، وجلسة المغفور لها- بإذن الله معالي- راجحة بنت عبدالأمير بن علي وزيرة السياحة الأسبق؛ حيث تحدثت بإسهاب عن الطموح السياحي والمشاريع السياحية القادمة المأمول منها إثراء البلد مرحبةً بمساهمات القطاع الخاص، وجلسة معالي الدكتور جمعة بن علي بن جمعة آل جمعة وزير القوى العاملة- حينذاك- الذي تطرق فيها لندوات التشغيل الوطنية وأهميتها، ومن خلال تلك الجلسات الشهرية المتخصصة تم نقاش أبرز المواضيع التي كانت تنشّط الساحة الاقتصادية في البلاد والحلول التي يقترحها أصحاب وصاحبات ورواد الأعمال.

ومن مجلس الخنجي إلى مجلس رجال الأعمال الذي أنشأته الحكومة في العام 1999، والذي شاركت في إدارته كعضو ومقرر المجلس وساهمت من خلاله مع زملائي الأعضاء في إيجاد قطاع خاص يسهم بأفكاره مع الجهات المعنية في الدولة كممثلٍين لأصحاب ورواد الأعمال وذلك حتى نهاية عام 2003 مدة نهاية المجلس. وفي عام 2006 تم تعييني عضوًا في المجلس البلدي بمحافظة مسقط ممثلًا عن ولاية مطرح حيث ساهمت مع بقية الأعضاء ومن خلال رئاسة اللجنة العامة في تبني إيجاد المعالجات المناسبة لتحديات رواد الأعمال وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من خلال توصيات عديدة بعضها تمَّ تنفيذه خلال ذات الدورة والبعض الآخر تم الأخذ به في الدورات التالية للمجلس.

وفي عام 2007 بدأت مشوارا جديدا من خلال ترؤس غرفة تجارة وصناعة عمان بالتعيين لمدة فترتين حتى 2014 خرجت فيها الغرفة بعدة مبادرات من أجل رقي قطاع الأعمال ورواد الأعمال عبر منصات متعددة مثل لجنة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ومنتديات صاحبات الأعمال على مستوى جميع فروع الغرفة والمركز الرئيسي، وبعد الانتهاء من مهمة رئاسة غرفة تجارة وصناعة عمان في فبراير 2014 تم إعادة تنشيط مجلس الخنجي من جديد والتوسع في قاعدة المشاركين وخاصةً رواد الأعمال حيث تم عقد عدد من الجلسات الاقتصادية والاجتماعية صاحبتها حوارات واسعة تصب جلها لصالح ريادة الأعمال والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة عبر استضافة العديد من أصحاب المبادرات الشبابية التي كتب لها النجاح إلى جانب المسؤولين والخبراء الاقتصاديين ومناقشتهم ينتج عنها توصيات ورفع تقارير دورية ونشر نتائجها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبث الوعي المجتمعي بأهمية السبلة العمانية وتطورها لمصلحة الوطن اولًا، وخدمة أصحاب وصاحبات ورواد الأعمال ثانيًا، علاوة على المهام الوطنية الأخرى للمجالس والسبل إذا ما تم إدارتها بمسؤولية وقيادة حكيمة محكمة، كل تلك الجلسات تمت حضوريًا حتى بدأت قرارات اللجنة العليا الخاصة بإدارة جائحة كورونا والتي اضطرتنا إلى استبدال الجلسات بلقاءات إلكترونية عن بعد بلغ عددها ما يزيد عن 150 لقاءً منذ مارس 2020.

هذه المحطات- التي يبدأ فيها الشباب بعد الحصول على شهادة الدبلوم أو كما تسمى في أيامنا الثانوية العامة مسيرتهم الجامعية كإحدى مراحل الحياة يتعلمون فيها كثيرا من التخصصات علاوة على المهارات المُهمة لأي مستجد- نستخلصُ منها ضرورة أن يتعلم من الشباب فنون العمل والمهن وأخلاقياتها والصبر والمواظبة والانضباط والسهر على التعلم عن بعد أو عن قرب، إذا ما أرادوا أن يفلحوا في حياتهم العملية، وكما تعلمنا نحن ممن سبقونا من تجارب، وجب على رواد الأعمال أخذ العبرة التالية: أنه لا شيء سهل وكذلك لا وجود للصعوبات إذا ما أرادوا أن ينجزوا وينتجوا كرواد أعمال يُشار لهم بالبنان شريطة أن تعمل الجهات المعنية على زيادة النشاط الاقتصادي وتوفير مصادر التمويل الميسرة والعمالة الماهرة والإسراع في إنجاز المعاملات خاصةً للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي لا تتحمل التأخير والأمر نفسه لبقية أصحاب المصالح الذين يتكبدون مصاريف متكررة كثيرة من دون مبرر مادي.

** رئيس غرفة تجارة وصناعة عُمان سابقًا