ماجد المرهون
لم يعد الشعور بالطمأنينة كما كان سابقًا ولست متيقنًا أهو شعور عام عند أغلب الناس أم هو شخصي، والقصد هنا بالطمأنينة ذات الصلة بالممارسات الحياتية من عمل وتنقل ونوم وغذاء ودواء.
من منطلق شخصي، فإنَّ وتيرة المحاذير تزداد بشكل طردي مع التقدم في العمر، كما تزداد الموانع والتنبيهات والنصائح حتى يتضارب بعضها وتختلط فيما بينها، ويقع المرء أحيانًا في حيرة من أمره، فوقوف شخص يتجاوز الخمسين في محل تجاري لقراءة محتويات معلب طعام ليس كانطلاق شاب في العشرينيات حيث يخيل إليَّ أن الأول لديه الوقت الكافي ليتصفح كتابًا جديدًا قبل اتخاذ قرار شرائه، والثاني يهتم بالعنوان والشكل واللون ثم ينطلق سريعًا، فيأخذ الأول منتجًا واحدًا أو اثنين في نصف ساعة بينما الثاني يشتري عشرة في وقت أقل ليلتقيان معًا في طابور الحساب مع الفارق في الكمية والنوعية ليتخذ الشاب دوره الطويل ويتقدم الآخر إلى منضدة الدفع السريع ونظرات التعاطي مع الحدث منذ البداية تتخلل النظارات الطبية والشمسية لترسل رمزياتها بينهما.
كلانا لديه القدرة على تصفح مواقع التواصل سريعًا في مواقف السوق التجاري قبل المغادرة إلا أنه يميل لسماع الأغاني في سيارته بحكم المزاج الشبابي كما أميل للتنقل بين قنوات المذياع؛ تطالعنا الأخبار اليومية بأضرار منتجات ربما استهلكناها لسنين ماضية ولم نزل، أو ممارسات ملازمة دأبنا عليها لفترات طويلة دون أن نشعر بضررها وقد تكون بوادر أعراضها بادئةً بالظهور ولكنها لم تستو على سوقها مع طغيان الأمل المؤقت الذي يدفع بتكذيبها إلى أقصى حدود التجاهل، ومع إشارات تنبيه قوية لايمكن نكرانها يبدأ سريان الوسواس اتخاذ سبيله إلى العقل سربًا، وتدخل الشكوك في تنافس مباشر مع وضع المقارنات غصبًا.
"فعلًا بدأت أشعر مُؤخرًا بعرض أو ألم وقد يكون بسبب ذلك المنتج الذي استخدمه ولكن فلاناً كذلك يستخدمه وصحته ممتازة". هذا النوع من المقارنات محفور في وعي المجتمع ويحمل بناؤها على الحكم الظاهري فقط أو التجربة الشخصية بصرف النظر عن اختلاف التأثير وقابلية الإصابة من شخص لآخر وهو بلاشك حكم خاطئ يفتقر إلى أدنى مقومات المنهج العلمي التحليلي.
يتحول الكل إلى أطباء عندما يمرض أحدنا ويقوم باستشارة المحيطين حوله من الأهل والأصدقاء، فيغدقون عليه النصائح والوصفات العلاجية بكرم وسخاء عظيمين، وقد يتفق معظمهم في البصمة الخارقة الأخيرة وهي مقولة "على الريق"، ولو قدر لذلك المريض أخذ كل تلك الوصفات لوجد على الريق كمية ضخمة من العلاجات تكفيه لتناولها من الصباح الباكر حتى قبيل الظهر. كذلك عند الاستشارة لشراء سيارة أو مكيف هواء للمنزل مثلًا فإنَّ الجميع سيتحول فجأة إلى خبراء وكل يقدم نصيحته الذهبية مجانًا من خلال تجربته الشخصية، كجودة تلك العلامة التجارية والماركة الفلانية، ثم يأتي آخر من أقصى المجموعة مُحذرًا منهما وهو له من الناصحين، ويدخل الأطراف في شد وجذب بين مادح للجودة وقادح لدحضها وقلما نجد هنا من يتحدث عن طريقة الاستخدام ونوعيته ولا معدل الاستهلاك ولا الصيانات الدورية وقد غادرهم طالب المشورة منذ ساعتين واضعًا هاتفه في جيبه أثناء دخوله للسوق التجاري باحثًا عن عدسة مكبرة ليحلق في سماء عالم بعيد مع محتويات علبة سمك تونة ربما رفضت على أعتاب منفذ حدودي لعدم استيفاء الاشتراطات الصحية ويهبط على وكزة صوت شاب بادية عليه سمات الاستعجال طالبًا منه التنحي قليلًا لعبور عربته المقطورة.
عندما ركنا إلى الدعة والراحة وتفضيل الأعمال البسيطة ذات المردود المالي القليل، خيل لنا أنَّ الزراعة من الأعمال الشاقة وغير المجدية، فأستولى عليها الوافدون وبسطوا سيطرتهم على المزروعات مع قلة خبرتهم مستحضرين روح عالم النبات والوراثة الروسي "نيقولاي فافيلوف" في عملياتهم التجريبية وبرهنوا نجاح نتائجهم في سرعة إنتاج الخضروات التي لا تتطلب جهدًا كبيرًا ولا وقتا طويلا للحصاد مع خلطات كيماوية سحرية وسرية، بعد أن أزالوا الأشجار الكبيرة واستبدلوا المحاصيل المحلية بالذي هو أدنى لإتاحة المجال للمزروعات المطلوبة في السوق بصفة يومية، وصحروا المزارع القديمة التي يشترك في ملكيتها عدد ضخم من ورثة لا يعلمون عن حالها وما آلت إليه مزرعتهم بعد وفاة مالكها من سنين خلت، وفي غياب قائم مرشح منهم لإدارة موارد تلك المزرعة باستثناء استلامه للإيجار الشهري الهزيل من الوافد الجاهل بأبسط الفنون الزراعية وبعد المماطلة المعتادة ومحاولات المسكنة والتملص.
بعد شراء 3 علب من التونة الوطنية جدًا، يتوجه طالب المشورة إلى سوق الخضار المجاور للتزود بما يحتاجه أهل بيته واحتياطات إضافية من الزنجبيل والثوم، فقد حان موعد انتشار موسم الأمراض التي لا يبحث أحد عن البؤر المسببة لها، فتعلق كمخرج بإحسان على الشماعات الموسمية، وبطبيعة الحال لا يوجد على منتجات الخضار والفواكه ما اتفقت عليه بديهيات حقوق المستهلك بدءًا بتاريخ الصلاحية وانتهاءً ببلد المنشأ؛ حيث التقييم في مثل هذه الظروف الغامضة يعتمد على قوة النظر للمعروض واللمسة الخبيرة التي تحدد شدة ونوعية الضغط عليها والحاسة السادسة، ثم الطمأنينة الأخيرة بسؤال البائع، والإجابة الأكيدة بأن قطافه قد حان اليوم صباحًا مع أول بروز لقرن الشمس وهو قادم مباشرةً من المزرعة، فتلمع هنا علامة المبيدات الحشرية وأكاد أراها، كما طالعته اليوم أخبار الصباح في مواقع التواصل عند تناوله منقوع النعناع والزنجبيل على الريق.