من هنا مرَّ الكرام

 

مسعود الحمداني

samawat2004@live.com

 

أن نحتفل بالعيد الوطني، فنحن نحتفل بيوم تاريخي، ومفصلي من تاريخ الوطن، نحتفل بيوم لا يُمكن أن يُنسى أو يُمحى من ذاكرة المواطن، يومٌ يختلف عن باقي الأيام، فيه وُلدت سلطنة عمان الحديثة، وفيه تخلصت من براثن الجهل والمرض والتخلف، وفيه بدأت مسيرة النهضة الكبرى، وملحمة البناء والعطاء والبذل والتضحية، وفيه وقف الحاكم إلى جوار الرعية، وسارا على قلب رجل واحد، يجمعهما الوطن، ويوحدهما الهدف، ويحدوهما الأمل بغدٍ أكثر إشراقا، وبدولة عصرية لا مجال فيها للتخلف، والتأخر.

بدأ هذا المشوار الحافل بالعطاء والبذل منذ فجر السبعين، كانت نقطة الانطلاقة تحت الصفر، تسلّح الجميع بالوطنية، وأمسك بعصا الأمل، وكانت خارطة الطريق واضحة، ولكنها مليئة بالجغرافيا الشرسة، والحفر المتكدسة، والأشواك الحادة، والآفات المنتشرة، والإحباطات المغرضة، والعقبات المترادفة، ورغم ذلك كانت صلابة الإرادة، وصخرة العزيمة، وكبر المهمة، وسلاح العلم أعظم من كل التحديات، وأكبر من كل الصعوبات، فاتحد الحاكم والمحكوم في هدف واحد، وبدأوا مشوار الألف خطوة لبناء وطن يليق بأبنائه.

كانت سلطنة عُمان- آنذاك- مجرد قرى وولايات مُتفرقة دون كهرباء، ودون مستشفيات، ودون مدارس، ودون طرق، وفي بضع سنوات تغيّر الحال، وأزهرت الحياة من جديد، وتحولت تلك القرى المهمشة إلى واحات من البناء، وتحولت الولايات البسيطة إلى كيانات معقدة، ونبضت فيها شرايين الأمل، وغدا ما كان بالأمس مستحيلا ـ في نظر البسطاء ـ أمرا قابلا للحلم والتحقق، وما كان قاحلا أمسى أخضر، فأبصرت العيون أمام ناظريها معجزة لا يمكن تصديقها، وملحمة لا يمكن إنكارها، وتبددت غيوم الماضي، ليحل مكانها خصبُ الآن والمستقبل.

لم تكن تلك الملحمة الوطنية وليدة الصدفة، ولم تكن مجرد قفزة في الظلام، لقد كان كل شيء محسوبا بدقة، رغم المخاطر، والتحديات، إلا أن كل الصعوبات تكسّرت على صخرة الطموح، والإرادة، والأمل، ولم تمر سوى سنوات قلائل حتى تحولت سلطنة عمان إلى إحدى الدول التي يشار لها بالبنان، ونأت بنفسها منذ البداية عن الصراعات الإقليمية، والتكتلات العسكرية، والنزاعات الدولية، وسعت بكل إخلاص إلى ترسيم حدودها، وحل خلافاتها القديمة مع جيرانها بروح الأخوّة والمحبة، دون أن تندم على سياستها الواقعية التي جنّبتها الكثير من الحوادث والصراعات المختلفة، فكانت هذه الدولة الحديثة "أستاذة" في الحكمة والاعتدال، وسياسة الحياد، والنأي بالنفس عن التدخل في شؤون الغير.

والآن.. وبعد اثنين وخمسين عامًا من العطاء، والبذل، والصبر، تقف سلطنة عُمان بين الدول مرفوعة الرأس، قادرة على مواصلة المسيرة، واضحة المعالم، والطريق، تعمل دون كلل أو ملل، تعيد قراءة نفسها، وتسعى لنقد ذاتها، وتعدل مسارها، دون أن تلتفت خلفها، تنظر عيونها إلى المستقبل، هدفها الريادة، وسلاحها- كما كانت في البداية- العزيمة والإرادة والصبر، ولكنها ازدادت هذه المرة صلابة، وثباتًا، وثقة بنفسها، واعتمادًا على أبنائها، ورسوخًا على مبادئها، من خلال رؤية واضحة، واستفادة من دروس الماضي، وأخذًا بأسباب المُستقبل.

رحم الله السلطان قابوس بن سعيد- طيّب الله ثراه- الذي أرسى دعائم هذه الدولة العصرية، وأمد الله في عُمر السلطان هيثم بن طارق- حفظه الله ورعاه- وسدد على طريق المجد خطاه، كي يواصل الدرب الطويل، ويصل بهذا الوطن العظيم إلى قمة الرفعة، والعزة والشموخ.