ماجد المرهون
majidalmrhoon@gmail.com
تعمّدت صحيفةُ "شارلي إيبدو" الفرنسية استثارة مشاعر المسلمين عندما نشرت رسومها المسيئة في عام 2006 وأعادتها جذعةً قبل سنتين، ضاربةً بعرض الحائطِ أو كما نعتقد كل ما حدث من ردودِ أفعالٍ وسخطٍ ومظاهرات، ودخلوا في طور من الكُبر والتحدي بالإصرار على موقفهم تحت شعار حرية التعبير، حتى قال كبيرهم: "لن نستسلم".
لا أعلم ما الذي لن يستسلم له، ويبدو أن الأمر يدور حول تعمد إذكاء روح الكراهية وإيجاد ذريعة تناسبهم لتأجيجها بغرض العودة على ما يشيعونه ضد الإسلام والمسلمين كالتطرف والإرهاب، حتى إذا تصاعدت الأحداث وأخذت منحنى آخر، وتطورت إلى مواجهةٍ ناعمةٍ من خلال مقاطعة منتجاتهم، تدخلت قياداتهم السياسية من أعلى منابرها للحد من تأثير تلك المقاطعة. وحمل الخطاب الأول أسلوب وصايتهم المعتاد بوجوب وقف المقاطعة فورًا في صيغة الأمر، وعدم الخلط بين حرية التعبير والتجارة. وكأن بمقدور الحكومات سوْق المستهلك كرهًا لشراء منتجاتهم. واستمر تثاؤب اللامبالاة المشرّب بنظرة التعالي يسيطر على الخطابات اللاحقة ومن تلاهم من العقلانيين. وما إن دخلت المقاطعة حيز التنفيذ الفعلي حتى تواضع أسلوب الخطاب تدريجيًا إلى أن وصل بمدراء الشركات للظهور الإعلامي مع شيء من الخضوع والرجاء؛ كلعبة أخرى من ألعاب المشاعر، بعدما انعكست النتائج وبشكل سريع وقاسٍ على اقتصادهم بسبب قوة تأثير الحملة وصلابتِها التي لم تدم طويلاً.
بعد هذه المقدمة وكما قال رئيس تحرير شارلي إيبدو: "دعونا نجد سببًا وجيهًا لنشر الرسوم"، فدعونا نجد نحن أيضًا وقبل الخوض في موضوع المقاطعة سببًا أكثر وجاهةً لارتفاع أسعار بعض المنتجات محلية الصنع، ولعل أهمها أسعار المواد الخام في دول المَصدَر أو المنشأ، وارتفاع تكاليف الشحن والنقل والوقود والمتغيرات الطارئة منذ شهر مارس الماضي، والتي يتجاهلها معظم المستهلكين مع علمهم بها؛ حيث إنَّ ثبات دخل الفرد بدون زيادةٍ لفترةٍ طويلة هو ما يسبب حالة الاستياء المجتمعي المصاحبة لارتفاع أسعار السلع وخصوصًا المواد الغذائية الاستهلاكية.
يذكُر الكثير ثقافة مقاطعة المنتجات التجارية عند ارتفاع الأسعار ويُشجّع عليها ويضرب الأمثلة بدول ومجتمعات أخرى على أنها ذات ثقافةٍ عالية وعلى كلمةٍ واحدة، في نوع من شحذ الهمم، وهذه لعبةُ مشاعرٍ أخرى. لكنهم لا يشرحون لنا النتيجة العامة لهذه الثقافة محليًا من سلبيات وإيجابيات بلغةٍ نفهمُها باستثناء الضغط كي تعود الأسعار إلى سابقها، وكل ما يهم الآن فقط هو المقاطعة، حتى نلقن هذه الشركة الوطنية الناشئة، وذلك المنتج المترصد بنا درسًا لا ينسونه أبدًا، وتُبقي على أسعارها كالسابق مدى الحياة! ثم لا ندري هل نفرح بإنجازنا في حالة خسارتهم أم نحزن؟
الحقيقة الغائبة في لاوعي المقاطعين أنهم اتخذوا تلك الشركة وذلك المنتج نموذجًا للتنفيس عن امتعاضهم من ارتفاع الأسعار بشكل عام، مع العلم أنهم لم يقاطعوا المنتجات الفرنسية لأكثر من أسبوعين، مع عِظم ما شهدناه من تذمرٍ واستنكار. ربما لا يُهم المستهلك الوضع المالي لشركة وطنية جديدة وضعت بصمتها في السوق المحلي بمنتجاتٍ عاليةِ الجودة واتخذت لها مكانة مرموقة بين المنتجات المستوردة لكبار المنافسين المخضرمين، ولا يعنيه نزاهة التنافس وشراسته مع منتجات أجنبية، تُسعدها إزاحة كل الشركات الناشئة لتتربع على رفوف المتاجر، وإن باعت بخسارةٍ لفترة طويلة في حربٍ صامتة، ثم يستبد بها الأمر بلا منازع في سوق بلا منافس.
قد يقول البعض: لا يهمني مكسب وخسارة شركة من الشركات؛ سواءً كانت وطنية أو غير ذلك، وكل همي هو السعر فقط. نعم، هذا حقٌ مشروع ولن يُستكره أحد في خياراته ومشترياته؛ فالحرية هنا مطلقة بحسب المعروض، ولكن لا يحق لهم لاحقًا الحديث حول تقليص شركة وطنية لأعمالها وتراكم ديونها ثم ضعف إنتاجها وربما جودة منتجاتها وصولًا إلى خسارتها وإعلان إفلاسها وتسريح عمالها وموظفيها من أبناء الوطن.
حين تعلن شركةٍ ما عن نيتها رفع أسعار منتجاتها، فذلك أمر حسن جدير بالاحترام ويحسب لها لا عليها، مع أن الكثير من الشركات لم تقم بمثل هذا النوع من الإفصاح، ولم يعلم أحد بتلك الزيادة في حينها، إلا عن طريق المفاجأة وتطبيق سياسة الأمر الواقع، فتجنبت بذلك استثارة الرأي العام وحملات المقاطعة. وأُجزم يقينًا أن الشركة التي تخلص إلى إعلان رفع الأسعار قد وضعت في اعتبارها الموجة المناهضة والمضادة لذلك؛ فهي لن تغامر باسمها وسمعتها وتضعهما على المحك في ظل التنافس المحموم، إلا بعد استنفاد كل السبل المتاحة، وأن القرار جاء للضرورة القصوى بغرض الاستمرارية، وليس الجشع.
عندما تُمطر المزون على مروجنا الشاسعة زخاتها الثجاجة، وتنبت خمائلنا صفوة ما تجود به أرضنا الكريمة، فإن انتماءنا لها يصبح أكبر وأقوى من دعوات العزوف عنها، فهي منا وإلينا وإن شقت علينا؛ بل ونعلن أن لا حاجة لنا بروابي الغير ولا مراعيهم التي سيشُق علينا بلوغها مشقةً مضاعفة إذا عمدنا بأيدينا إلى إزدراء مواردنا.