الأمن الغذائي الوطني

 

د. حارث الحارثي

الأمن الغذائي كمفهوم تمَّ تناوله من منظور الاحتياطي الغذائي للدولة، وتم رصد الميزانيات السنوية له منذ العام 1980 لشراء 9 منتجات غذائية أساسية وتخزينها لضمان توفرها في الأسواق المحلية عند شحها في الأسواق العالمية وفي الأقطار المُنتجة.  تطور تناول السلطنة لموضوع الأمن الغذائي بإنشاء "الشركة العمانية القابضة للأمن الغذائي" التي تضم "الشركة الوطنية للاستثمار الغذائي" وهي الشركة الأم لمشاريع مزون للألبان والبشائر للحوم وغيرها. كل هذه التطورات والخطوات تدل على أنَّ هناك جدية كاملة ومنهجية واضحة لتعاطي الحكومة مع مسألة الأمن الغذائي، وهو أمر حسن وجميل.

"ضمان توفر الغذاء على مائدة الأسرة" هو متطلب ديني وأخلاقي مُهم، وهناك الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة التي حثت وأمرت المجتمع على التكافل مع بعضه البعض لتوفير الطعام للأسر الفقيرة. حديث "ما آمن بي من بات شبعان وجازه جائع إلى جنبه وهو يعلم به" ربط ونص على مسؤولية الأفراد على المُساهمة في "توفير الطعام على مائدة الجار الفقير" وربطه مباشرة مع الإيمان. هناك جهود كبيرة يقوم بها الأفراد وتقوم بها الجماعات والفرق والجمعيات الخيرية ارتكازاً على هذا الهدي النبوي الشريف والجميع يثني على ما يقومون به.

قبل 12 عاماً من الآن، كتبت مقالا أسرد فيه قصة أسرة عُمانية تعاني من عدم قدرة رب الأسرة على توفير الغذاء لأبنائه ويمكنكم قراءته عبر الرابط التالي: (https://tinyurl.com/2batk282) أحداث القصة وقعت قبل أكثر من 10 سنوات على سردي لها في المقال، وحاولت في المقال تسليط الضوء على مسألة "الأمن الغذائي" عبر منظور الأفراد والأسر وليس عبر منظور الدولة فقط. حاولت الإشارة في المقال إلى تأثير محدودية الدخل على قدرة الأسر على شراء وتوفير الغذاء لأفرادها من أطفال ونساء ومسنين، وكيف ينتج ذلك الجوع ويولد البؤس. بالرغم من مضي 22 عامًا على أحداث القصة، ما زالت تجلياتها واضحة وجلية.

ليلة البارحة كان لي موقف آخر مع مسألة "الأمن الغذائي" عبر تغريدة نشرتها وكنت من أوائل الرافضين لمُقاطعة إحدى شركات "الشركة الوطنية للاستثمار الغذائي" وهي "شركة مزون للألبان" بعد انتشار دعوات مقاطعتها عبر منصات التواصل الاجتماعي. لست هنا بصدد الدفاع عن نفسي وتوضيح أهدافي من رفض المقاطعة، ولكن هناك نمط من الردود على تغريدتي استوقفني وسأركز عليها في مقالي هذا عبر التحليل للوصول إلى تحديد للسبب الحقيقي خلف رد الفعل القوي من المجتمع على التغريدة. عند تصفحي للردود، لاحظت تكرار المشاركات التي تصف حالة من "الألم" و"الإحباط" و"القلق" من تحديات وعدم القدرة على توفير الغذاء لأفراد أسر عدد كبير من أفراد المجتمع وفق معطيات الوضع الراهن.

ردود مثل "الـ50 بيسة تعمل فرق كبير معاي" و"أنت ما تحس بالفقراء لأنك ما منهم" تستدعي منَّا وقفة صادقة ومراجعة موضوعية حثيثة لتحديد "قدرة الأسر" على "ضمان الأمن الغذائي" لأفرادها.

الغذاء يا أعزائي لا يشبع البطون فقط؛ بل ينمي الأجسام والعقول الصغيرة للأطفال ويحفظ صحتهم، الغذاء ضروري لعمل وظائف جسم الإنسان المختلفة وتقوية مناعته لمحاربة الأمراض، وضروري للقدرة على العمل والإنتاج. دول العالم المختلفة سواء المتقدمة أو النامية، تفصل وتركز جهودها "لضمان الأمن الغذائي للأسر" والأفراد فيها لأنها تدرك تداعيات وتكلفة الجوع وسوء التغذية، وتقدم البرامج التي تضمن الحصول على الغذاء ضمن خدماتها الاجتماعية. الأمن الغذائي لهذه الدول يتصل ويتعدى إطار الاحتياطيات الغذائية ليصل إلى ضمان حصول الأسر على احتياجاتها من الوجبات الغذائية، بغض النظر عن مستوى دخل الأسر. "طوابع الغذاء" في أمريكا و"بنوك الغذاء" في أوروبا، كلها برامج تركز وتعمل على توفير "الأمن الغذائي" للأفراد والأسر.

أولت حكومة مولانا صاحب الجلالة السلطان المعظم- حفظه الله ورعاه- اهتمامًا خاصًا لبرامج الدعم الموجه لأسر الضمان الاجتماعي وذوي الدخل المحدود، فقامت الحكومة بتوفير "بطاقات دعم الوقود" وأيضًا "دعم فواتير الكهرباء والماء" والعديد من برامج الدعم الموجه. هناك تحدٍ حقيقي ومتصاعد يواجهنا الآن، فمن جهة يستمر تصاعد تكلفة الإنتاج للغذاء وأسعار بيعه في المحلات، ومن جهة أخرى تتناقص قدرة الأفراد على تحمل تكلفة شراء المواد الغذائية. ردة الفعل الحادة على رفع شركة مزون لأسعار بعض منتجاتها لا يجب أن يفهم بأنه محصور ومحدد في موضوع الشركة فقط، بل يتخطى ذلك إلى أسباب جذرية تستدعي التعامل معها ببرامج هادفة تضمن الأمن الغذائي للأفراد والأسر.

ربما حان أوان التفكير في "ضمان توفر الطعام على مائدة" كل أسرة وتبني برامج تحقيقه لدينا هنا في عمان. ربما نحن فعلا بحاجة إلى "بطاقات دعم الغذاء" وإضافة الأمر لاختصاصات وزارة التنمية الاجتماعية، لنضمن حصول أسر الضمان الاجتماعي وذوي الدخل المحدود على احتياجاتها من الغذاء حفاظًا على صحة أفرادها.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة