التاريخ.. عكّاز يحمل نصف الحقيقة!

 

عائشة السريحية

قرون مرَّت، وعقود تعاقبت، وحضارات نشأت وأخرى اندثرت، ملاحم سطرت وتواريخ سجلت، أنساب اختلقت، وأخرى بالكذب مجدت، خرافات في العقول استوطنت، وأساطير ما أنزل الله بها من سلطان على عقول البشر استحكمت، كل هذا بدأ منذ بداية معرفة الإنسان للكتابة، كتب على الصخور، وعلى الأشجار وعلى جدران الكهوف، وجلود الحيوانات، أراد أن يُدون المعلومات بغض النظر عن صحتها من عدمها، فليس كل ما وصلنا عبر التاريخ هو حقيقي، وليس مهماً أن تسافر الحقيقة عبر كتب التاريخ، لأن التاريخ يسجله ببساطة المُنتصر، ويكتبه من يربح الحروب، فلا شاهد عيان بسيط يحكي ما رأى، ولا نقي تقي ينقل ما يعرف دون أن يأتي من يدنس شهادته، أو يستغل اسمه، ولا ملك أو قائد غازٍ يكتب الحقيقة عن مطامعه، التاريخ يُسافر عبر العصور لكنه نصف نور ونصف ظلام.

أحرقت الكثير من المكتبات ودمرت ملايين الكتب عبر السنوات، فقد كان الحرق والتدمير إما لأسباب عقدية دينية، أو أخلاقية، أو سياسية، ولعل الأخيرة كانت هي الدافع الأكبر؛ خصوصا وأن العهود القديمة عبر التاريخ وبمختلف الحضارات لم تكن تقبل فكرة الاختلاف والتنوع.

لنذهب شرقا نحو الصين أسرة "تشين" في الصين إثر فتوحاتها السريعة أتلفت وأحرقت الكثير من الكتب والعلوم والثقافات الأخرى، عقب قضائها على سلالة تشو وتلا ذلك محو كل ما يتعلق بهم، إنه إلغاء الهويات، وهذا ما كان يعمل به في ذاك الزمان.

وغربا وبعيدا جدا نحو حضارة المايا التي سكنت الأمريكتين، حين تعرضت للغزو الأسباني الذي دمر حضارة ثلاثة آلاف عام، لم ينج منها إلا القليل وخاصة التراث الأدبي اللامادي، رغم أن حضارة المايا القديمة كانت تتمتع بتطور ثقافي وفلكي وعلمي قبل اكتشاف كولمبوس، لم تكن تلك القوات الغازية تفكر إلا بالأرض الجديدة، المستعمرات والثروات، ورغم ذلك، وصلنا إثر الاكتشافات الحديثة جزء لا يستهان به من موروث حضارة المايا، ليكشف لنا الأمر عن فظاعة ما حدث للجزء المخفي في صفحات التاريخ.

وفي بلاد العرب، عام 612 (ق.م) أحرقت مكتبة أشور بانيبال والتي يقال إن ما دُمر فيها كان بالآلاف من الموروث الفكري والحضاري، وما تبقى من آثارها في مدينة نينوى بالعراق التي اكتشفت في القرن الثامن عشر على يد الرحالة أوستن هنري لايارد، قد وضع في بعض المتاحف منها متحف باريس ولندن، ومرة أخرى يخبرنا التاريخ أن مافاتنا كان كثيرا جدا.

وذكرت مصادر عدة عن حرق مكتبة برسيبوليس في فارس قديما من قبل الإسكندر، يقول المؤرخ الروماني آريان إن الجنرال بارمينيون حث ألكساندر على عدم حرقها، لكن ألكساندر فعل ذلك، على أي حال.

وادعى ألكسندر أنه كان يفعل ذلك كعمل انتقامي لتدهور الأكروبوليس في أثينا خلال الحرب الفارسية؛ حيث كان الفرس قد أحرقوا ودمروا معابد الآلهة على الأكروبوليس والممتلكات اليونانية الأثينية الأخرى بين الوقت الذي ذبحوا فيه الأسبرطيين والشركة في تيرموبيلاي وهزيمتهم البحرية في سلاميس، حيث هرب جميع سكان أثينا تقريبًا.

"النار من السماء: ألكسندر في برسيبوليس"، بقلم يوجين ن. الفلسفة الكلاسيكية، المجلد. 67"

ورغم شح المصادر وتأكيد المعلومات إلا أننا كما قلت، نتعامل مع جزء فقط من الحقيقة، وأن الحقيقة هي أننا لا نعرف محتوى الموروث الفكري أو العلمي أو حتى الثقافي لتلك الحقبة إلا أن أسباب حرق هذه المكتبات وهذه الكتب أو الألواح الطينية أو أي مدلولات لثقافة شعب معين في حقبة معينة، إلا أن الأسباب والدوافع جميعها تكاد تكون هي ذاتها.

ولعل حرائق مكتبة الإسكندرية كانت بمثابة جريمة تاريخية كبرى، ارتكبها كما قيل يوليوس قيصر، وتعود أهميتها لكونها أقدم مكتبة عامة في العالم القديم ضمت آلاف الكتب والمخطوطات والأعمال منها أعمال لهوميروس، ومكتبة لأرسطو وفقد العالم بذلك إرثا فكريا وثقافيا وحضاريا عظيما، حيث كانت كل هذه الثروات الفكرية والحضارية تنتهي بمجرد إشعال فتيل يضرمه أحمق.

وعودة لتاريخ ما قبل الإسلام قليلا، فقد أحرقت الكتب أيضا لدوافع دينية وفق قرارات دينية، ففي مجمع نيقية الأول والذي عقده الإمبراطور قسطنطين الأول ليتم الاقتراع فيه على طبيعة يسوع (حسب المُعتقد المسيحي) حول إنسانيته أو ألوهيته، كان آريوس وبعض القساوسة ينكرون أزلية يسوع، بينما الكسندروس الأول كان يعتقد أنه إله، وبعد أن تم الاقتراع وانتصر الكسندروس الأول، تم حرق كل كتب آريوس ومن آمن بنفس فكره.

ولعل أهم إتلاف بعد مكتبة الإسكندرية هو مكتبة بغداد التي أحرقها المغول في غزوهم لأرض الرافدين، ومحاولتهم طمس كل شيء يتعلق بالمسلمين، حيث كان قد أسسها الخليفة العباسي هارون الرشيد، وكانت تضاف إليها آلاف الكتب والمخطوطات في مختلف المجالات الثقافية والفكرية والدينية والعلمية، بل إن المسلمين برعوا في شتى مجالات العلم كالطب والهندسة والفلك والأدب وغيرها، وتعاقب الخلفاء بعد هارون الرشيد وكانت المكتبة تكبر يوما بعد يوم، ويعد جريمة كبرى في حق الإنسانية ماقام به التتار، وعملا نستطيع أن نصفه بالإرهاب الحقيقي، فقد أحرقوا إرثا عالميا، قيل إن الخليفة المأمون قد أبرم معاهدة مع ملك الروم بعد انتصاره عليه، بالسماح للمترجمين المُسلمين أن يترجموا ماحوته مكتبة القسطنطينية من كتب، وكان العمل فيها منظما وله هيكل تنظيمي وإداري، يحوي العديد من العاملين بالمكتبة للنقد والتحليل والترجمة والتصنيف؛ حيث إن اللغات التي ترجمت للعربية متنوعة بتنوع التاريخ والحضارة الإنسانية مابين اليونانية والسريانية والهندية والسنسكريتية والفارسية واللاتينية.

إنَّ جريمة طمس التاريخ وحرق الموروثات الفكرية والحضارية والعلمية والتاريخية هي من أعظم الجرائم التي وقعت في تاريخ البشرية، وحيث إننا لا نستطيع أن نجزم بصحة التاريخ المروي أو المكتوب عبر ما وصل إلينا حديثا، ولأن المنتصر هو من يتملك القلم ويحرف المسار ويغير الأحداث، علينا أن لا ندفع كثيرا في اتخاذ أي موقف، فلعل التاريخ كان شيئا مختلفا تماما، فلا يمكن لشيء ماض أن يكون صحيحا مائة بالمائة، ولا نستطيع أن نجزم بصدق ما وجد في كتب التاريخ من أحداث وروايات وقصص وسير، فقد كان التاريخ في لحظة تنسف وثائقه بشرارة من نار، أو تغرق في الأنهار، ولا نعلم مما كان إلا الشيء اليسير، ولعل التراث المروي يشوبه الكثير من التأليف والتدليس، أو التراث المكتوب يشوبه الكثير من المحاباة أو الانحياز، لذلك قبل أن نتشدد لأمر تاريخي من غيره علينا أن نبحث الدلائل المادية كشواهد مادية لحضارات أو كنوز، ماعدا ذلك يعد من القص الذي قد يصدق بعضه ولا يصدق كله.

التاريخ مهم، لكنه ليس الحقيقة الكاملة!