السؤال الغائب أو المغيب؟

 

د. عبدالله باحجاج

العنوان نطرحه من خلال استقصاءاتنا الميدانية، ونتائجها المُثيرة، والمتعددة الانعكاسات، وهذه الأخيرة هي الأهم، وهي التي تطرح السؤال المزدوج، والسؤال هو: كيف نُفرِّق بين المستثمر الجاد والمُزيَّف؟ هذا هو السؤال الغائب أو المُغيَّب؛ فالتطبيق هو الحاكم على هذه الثنائية المزدوجة، وهو الذي يقف وراء فتحنا لهذا الملف بعد ما رصدنا حالاتٍ تُشوِّش على كل مُستثمرٍ جادٍ، وتعمّق التزييف في هذه الفئة، والتي لها انعكاسات مُقلقة في الحاضر، ومستقبلها أكثر قلقًا لتقاطعها مع حقبة سياسية إقليمية مُعقدة جدًا، لذلك يستوجب فتح ملفها عاجلًا.

وقد ظهرت أمامنا هذه القضية فجأة من خلال الحالتين التاليتين:

الأول: أثارني شحّات وافد يستعطف المُصلين في أحد المساجد في مدينة السعادة ببنت عمرها ثلاث سنوات مُمزقة الثياب.. تبعتُه لخارج المسجد مُستنكرًا عليه فعلته، ووجدتُ حديثه معي ينم عن خلفية تعليمية مُتقدمة، وذلك عندما فتحت معه اتفاقية حقوق الطفل، وحمايتها لهذه الطفلة، ولما سألته كيف دخلت للبلاد، أجاب مُباشرة ودون تردد بـ"بطاقة مستثمر".

الثاني: صديق لديه شركة متوسطة، قابلتُه فجأة في مساء واقعة الشحات، وبادر فورًا بفتح قضية "بطاقة المستثمر" وكيف خرجت عن سياقاتها التوصيفية، قائلًا إنه وظَّف وافدًا بمهنة سائق دخل البلاد بـ"بطاقة مستثمر" كاشفًا تفاصيلَ أخرى عن هذه القضية.

عندها أيقنتُ أنَّ الحالتين سالفتي الذكر في توالي تزامنهما السريع، ما هما إلا رسالة لمشروع بحث ومن ثم مقال، وهذا شأن الكثير من مقالاتنا، عندها قررت فتح هذا الملف، ولم أتعب فيه كثيرًا، لأن الوقائع تأتيني سريعًا، فاكتشفتُ أن هناك الكثير- لم أتمكن من معرفة عددهم حتى الآن- قد دخلوا ظفار ببطاقة مُستثمر، وهم بعيدون كل البُعد عن الاستثمار، ولا يملكون الأموال أصلًا، ويستخدمونها إما للبحث عن عمل ولو بدخل متواضع، أو للشحاتة. فهل يمكن أن تكون هناك أغراض أخرى الآن أو مستقبلًا؟ لن نترك الإجابة مُعلقة، ونستشرف الأغراض مسبقًا، فقد يستغلها البعض.

ولمّا سألت مصدرًا "صاحب تجربة" عن إجراءات استخراج بطاقة مُستثمر، أفاد قائلًا: "أحمل معك 800 ريال عماني لأحد مكاتب سند، وهم سيقومون بكامل الإجراءات، من استخراج سجل تجاري... إلخ وتكون مدة البطاقة سنتين". وهنا نستدعي تساؤلَ العنوان بتعبير أكثر دقة في ضوء المشهدين سالفي الذكر: هل هذا النوع من المستثمرين تريدهم مرحلتنا الوطنية؟ ومنه تتفرع مجموعة تساؤلات لتوسيع دائرة التحليل والاستشراف، أبرزها: هل بطاقة المستثمر وراؤها غاية مالية خالصة؟ وإذا كان ذلك، هل لدينا رؤية لانعكاساتها الاجتماعية والأمنية؟ هل بطاقة المستثمر بضوابطها الحالية تفرّق بين المستثمر الجاد وبين المزيّف الذي يدخل بلادنا لأغراض متعددة؟ الإجابة نجدها في المشهدين سالفي الذكر.

نُكرر بإلحاح انعكاسات "بطاقة المستثمر" اجتماعيًا وأمنيًا مستقبلًا، ونشدد على أنها لا تُفرّق بين المستثمر الجاد وغيره الذي له مآرب أخرى، وقد تتطور هذه المآرب في ظل طبيعة المرحلة الدولية والإقليمية المعقدة. وبصريح العبارة، فإن بطاقة المستثمر بتطبيقاتها التي أوضحنا بعضها سابقًا، قد تُستغل من أطراف متشددة أو متطرفة للتوغل في بلادنا، واختراق مجتمعنا، وتأسيس حالة صداع دائمة، كما إنه ليس هناك من مصلحة في إغراق البلاد بالمستثمرين المزيفين، علماً بأن كل من يحصل على هذه البطاقة، ربما يحق له إدخال عائلته معه وربما أكثر!

من كل ما تقدَّم، فإنّ الحاجة العاجلة تُوجب أن تكون بطاقة المستثمر ذكيّة، تفرق بين المستثمر الجاد، وغيره ممن يسعون لهذه البطاقة من أجل غير غرضها الاستثماري، علمًا بأن هذه البطاقة تَمنح لأصحابها حقوقًا اجتماعية أسوة بالمواطنين، كحق أبنائهم في التعليم الحكومي، الأمر الذي يشكل ضغوطًا على الخدمات العامة من حيث الكم والجودة... إلخ.

فمن هو المُستثمر الجاد؟ لا بُد أن تكون هناك مواصفات قياسية تُدلل عليه مباشرة وبسهولة، وتمنحه الحق في البطاقة دون تعقيدات، ومن هنا يُمكن القول إن المستثمر الجاد، هو صاحب الأموال والخبرات والاختصاص في مجاله، ولديه ما يُثبت سجلات محلية أو إقليمية أو دولية بعضها أو جميعها، وأن ملفه نظيف سياسيًا وآيديولوجيًا وفكريًا.

ولا يُمكن اعتبار "بطاقة المستثمر" وفق ما أشرنا إليه سابقًا، أنها تدخل في سياق تسهيل الاستثمارات في بلادنا، كما كان رد أحدهم علينا عندما أثرنا هذه القضية قبل يومين في سياق نقاشات معمّقة، وإنما تفتح أبواب بلادنا دون ضوابط، ودون الاعتداد بالمآلات المستقبلية. والمستثمر الجاد بتلكم المعايير كلها أو معظمها لا يُخشى منه، لأنه غالبًا سيكون حريصًا على بيئة استثماراته ووجوده بيننا، وفي حالة إذا ما كانت مُسيّسة، فإنَّ الحل سيكون في الرقابة الفاعلة والمتخصصة. والتلويح بالنظافة السياسية والأيديولوجية لا يُفهم منه التشديد، بل أن نسمح له بالدخول إذا ما كان ذلك لا يتعارض مع مبدأ التسهيلات، فلو وُجدت تُكتشف لاحقًا.

نقفُ مع توجه التسهيلات لجذب الاستثمارات لعلمنا بحاجة رؤيتنا "عُمان 2040" لهذه الاستثمارات، ونجاحها يتوقف على الاستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية بما نسبته 80%، لذلك ليس أمامنا من خيارات سوى تسهيل الاستثمارات، لكن بصورة ذكية تُفرّق بين المستثمر الجاد وغيره. وبلادنا في حد ذاتها جاذبة للاستثمارات لوجود الفرص الاستثمارية المتنوعة والمتعددة في الرؤية المستقبلية 2040، وللاستقرار السياسي، والبيئة الاجتماعية المتعايشة والمتناغمة مع كل مكوناتها الاجتماعية والفكرية. فعاجلًا ينبغي إعادة النظر في بطاقة المستثمر قبل أن تصنع وقائع ضارة للمستقبل.