سليمان المجيني
ما أحلى مدارسنا التي نهلنا منها ما نُفاخر به في حياتنا، وما أجمل تلك الصباحات المفعمة بالنشاط، وبالكسل أحيانًا، الكسل الذي يخالطه خوف من التقريع؛ فوالدانا كانا في صف المعلم على الدوام، تعبنا من التفكير في كيفية الهرب من الدرس دون عقاب.
يبدأ اليوم الدراسي بانتظام صفوف الطابور، وطابورنا مختلف، لأنَّ به حزم شديد، تجد المعلمين يحملون أداة ضرب قوية كان قد أوصى بها والدانا، كما أوصوا بسلامة العين، أما المُعلم فكان يشعر بكيانه وهيبته حتى أن الواحد منَّا يرجو أن يكون مُعلمًا.
الدرس كان مفهوما لدرجة ألا أحد سيأتي بجديد لو قام بتدريسه مرة أخرى، وهو لب القصد وجوهره؛ فماذا يمكن أن يقدم الدرس الخصوصي؟ وماذا يمكن أن يستفيد الأبناء منه إذا كان الصف الدراسي يلم بكل أطراف الدرس، ويُحقق الهدف؟
أسئلة حيّرت الكثير ولم نصل إلى طريقة لعدم تكرارها، لكن الأمر الذي يعلق في أدمغتنا أن الأبناء لا يستوعبون دروسهم بل لا يجدون متسعاً في الفصل للحوار والمناقشة، بل يتحجج بعضهم بأن كثرة الطلاب وقلة الوقت هما السبب في صعوبة الفهم، وتركيز بعض المعلمين على طلبة بعينهم يثير آخرين ويجعلهم في حيرة من أنفسهم.
هل المؤسسة التعليمية هي السبب، لأنها فتحت المجال للمنتفعين؟ أم يأتي في طليعة ذلك رغبة الآباء فيما يعتقدونه بتجويد تعليم أبنائهم والحصول على أعلى الدرجات؟، أم المجتمع هو السبب؟
لست واثقًا من الإجابة التي يمكن أن تكون مقنعة وشفافة لأن الأمر محير وملتبس، ولأني واحد ممن لامس هذا الأمر، ولم يجد إجابة حقيقية وعميقة؛ فقد واصلت الموضوع وانحنيت لرغبة أبنائي ظنًا مني بأن الرغبة تولد المعجزات. ولم يعد الأمر سوى حالة مجتمعية موجودة بقوة ويجب علينا مُمارستها، وهي ضمن عيشنا كالماء والطعام والهواء، تدخل في ميزانية المنزل المتواضعة لتحرمنا من شيء آخر؛ فالدرس الخصوصي ليس كالدرس العام، هناك تشتت وهنا تركيز، هناك اعتياد وهنا ندرة، هناك شمول وهنا فرادة، هذه النظرة أصبحت سائدة في المجتمع، ويعتقد آخرون أن التنافس يكمن هنا ومن هنا يبدأ.
أما بائعو التعليم فقد حوصرت مهامهم في قدرتهم على تجميع أكبر قدر من الأموال من طلبتهم الذين يعلمونهم صباحاً، ويكملون الدرس (يجودونه) مساء، وهكذا تصبح الدروس المسائية مختلفة عن تلك المنتظمة في مؤسسات التعليم. ما يثير الدهشة، وربما المضحك المبكي هو اعتذار بعض هؤلاء المعلمين، رغم قلتهم، يمتنعون عن تخصيص الدروس لطلبتهم، بحجة عجزهم عن تقديم الأفضل، لكن في المُقابل لا يمنعون أنفسهم من تخصيص الدروس لآخرين، وهي حجج واهية تسير في عميق الابتذال والسخرية.
الدروس الخصوصية تنهك الطالب في وقته وتقوض قدراته وخصوصيته، وتفكك العُرى والأواصر الاجتماعية، كما تنهك ميزانية الأسرة، وطريقة إلقاء الدرس في الصفوف تحرمه من المشاركة والمناقشة، ما يعني أهمية مراقبة طريقة التعليم، وكم المعلومات والنشاطات الصفية التي تدخل في فهم أعمق لتلك الدروس، وأهمية ممارسة الهوايات والميول، وكذلك أهمية مواكبة العصر وتحديث المدارس في أدواتها ومناهجها، بل يؤخذ رأي الطلبة في الوقت المخصص لبعض المواد الدراسية.
التخصيص بشكل عام ليس جيدًا، إلا في النوادر، يجب أن ينعم الجميع بنفس المعاملة، ويأخذ نفس الحقوق، ويندرج في ذلك التعليم، الاستسلام لمنظري التعليم ليس مبعثاً للتقدم، فلماذا لا يضاهي مستوى المدارس الحكومية المدارس الخاصة؟، ما المانع من تزويد طلبة المدارس الحكومية بنفس جرعات التعليم وكيفيتها في المدارس الخاصة؟، ولماذا يهرب الكثير بأبنائه إلى المدارس الخاصة؟
يذكرني هذا الفضاء بعدد الطلبة قديما حيث يتجاوز الأربعين في الصف الواحد، وهو عدد كبير على أية حال، لكن طريقة التدريس استطاعت أن تجعل الشمولية مدعاة للتكامل، والتشتت مدعاة لمراجعة النفس والتثبت بشكل أوسع وأكبر، والدرس العام مدعاة لمعرفة أكبر ونقاش أوسع وفهم أعمق، حينها خرج الطلبة منتصرين علما وخلقا دون تخصيص الدروس وتفكيك العرى والأواصر.
مدارسنا القديمة اختلفت بشكل واسع، تطورت في مبانيها واختلف معها كل شيء آخر، وأبرزها التعليم نفسه، كنَّا نتعلم من العلم والحياة داخل وخارج الصفوف الدراسية، كل شيء في قرانا كنَّا نتعلم منه، وغلب على الأجيال الحاضرة التعليم من أجل الدرجات فقط، وهنا الفرق بين مدارسنا ودرسهم الخصوصي.