ناصر أبو عون
كان "الانقلاب الدموّيّ" الذي أطاح بالحكم العربيّ العُمانيّ في "زنجبار" قاب مذبحتين أو أدنى من رقاب مناضلين طائيّين أو أكثر.. دبّرها الرجل الأبيض، وغاص إلى رأسه في دمائها الرجل الأسود، سبقتها خطوات تمهيديّة بدأت بمحاصرة "صحيفة الفلق" الصادرة باللغة "السواحيلية" عام1946م ومطاردة كُتّابها، ومصادرة أعدادها في "زنجبار"، و"الجزيرة الخضراء"، وصولا إلى العواصم الأفريقية المجاورة وعشائرها "الناطقة بالسواحيلية".
هنا.. وعلى هامش السيرة الذاتيّة للإعلاميّ "علي بن محمد الطائيّ الشهير إعلاميَا بـ"الطيوانيّ" نقلّب في صفحات أول ثورة عنصريّة لا وطنيّة ولا اجتماعية في التاريخ البشريّ والتي تمَّ التحضير لها في أروقة السفارة البريطانية، وعلى أسطح البوارج الأمريكية المرابطة في المياه الإقليمية على الحدود الشرقيّة لسواحل زنجبار لقطع الطريق على تحركات الوطنيين الخُلَّص من "العُمانيين والعرب والأفارقة" المطالبين باستقلال بلادهم، وإقامة دولة ديموقراطيّة على مباديء "ملكيّة دستوريّة".
مع انبلاج فجر النصف الثاني من القرن العشرين سعى المتآمرون على سلطان زنجبار والشعب المسالم في مصادرة كلّ آليات التنوير وإخماد التعبئة العامة، ودقّ مسمار الفتنة في نعش الوحدة الوطنيّة ووأد الحرية الوليدة؛ فبدأوا بمحاصرة صحيفة "الفلق" و"أخواتها" الناطقات بجميع اللغات عام 1954م بتلفيق التّهم المُعلّبة سلفا تحت عنوان "إثارة الشغب وتحريض الزنجباريين على التمرّد"، وأوعزوا للهيئة القضائية- التي وضعوا أيديهم عليها- باستصدار حكم قضائي بحجبها لمدة عام من (19 يونيو 1954 إلى 19 يونيو 1955م).
وبمطالعة نماذج من المواد الصحفية المنشورة في "الفلق"، نقرأ العديد من التحقيقات والمقالات الصُحفيّة التنويرية ذات الصبغة التوعوية بالقضايا السياسيّة والاجتماعيّة؛ نذكر منها:"نصيحة.. أيّها الزنجباريون" للكاتب "علي بن محمد بن علي بن عامر بن سعيد بن عامر بن خلف بن صالح الطائيّ" وذلك عشيّة قيام الإنجليز بتدبير المؤامرة الكبرى وصناعة عبد الرحمن محمد المعروف باسم "بابو" على أعينهم وتحريضه على الانشقاق عن "الحزب الوطني"، وساندوه في الخفاء والعلن تحت لافتة دعم الديموقراطيّة التي هي "حقٌّ يُراد به باطل" ووقفوا خلف تشكيل "حزب الأمة" كخطوة أولى لتحقيق مبدأ "فرّقْ تسُد"، والذي اندمج لاحقًا مع الحزب العنصريّ "الأفروشيرازي" تحضيرًا للانقلاب الدمويّ، وفق اعترافات ثلاثة من شهود عيان المؤامرة وهم: "المستر تايلور"، و"هنري هوكر" و"المستر بيني" والأخير كان مشرفًا على الانتخابات عام 1957م، التي فازت فيها ثلاثة أحزاب وطنيّة بأغلبية كاسحة هي:"الحزب الوطني الزنجباري"، وحزب "شعبي زنجبار"، وحزب"بيمبا"، وشكّل الثلاثة معًا أول حكومة وحدة وطنية توافقت فيما بينها على "إعلان استقلال زنجبار" عن بريطانيا يوم العاشر من ديسمبر 1963م.
غير أنّ المؤامرة التي دُبّرت بليلٍ كانت كـ"سّم أفعى المامبا السوداء" سرت في الجسد الزنجباريّ سريعا، ولم يمضِ شهر من تاريخ إعلان الاستقلال عن بريطانيا إلا وانقضّت أذناب بريطانيا ومرتزقة "الحزب الأفروشيرازي" وأعملوا آلة القتل بالأقليّة العربية تحت سمع وبصر القوات البحريّة الأمريكية والبريطانية المرابطة في المياه الإقليمية لـ"زنجبار"، وسهر قادتها الليالي وأحيوا النُهُرٌ يقرعون الأقداح على أصوات طلقات الرصاص في حفلة الدم العربيّ حتى انتهى الانقلابيون من المجزرة يوم الحادي عشر من يناير الأسود سنة 1964.
وسرعان ما شرع الناجون على وجل فارين من براثن المذبحة المدبرة بليل لإنهاء "الوجود العربيّ والعُماني" بالنزوح فرادى وجماعات إلى العواصم الأفريقية المجاورة وقليلٌ منهم شاءت له الأقدار أن يصل إلى عُمان آمنا مطمئنا بعدما انقشع غبار المؤامرة.
عشيّة هذا التاريخ الأسود كان الفتى الطائيّ علي بن محمد بن علي بن عامر بن سعيد بن عامر بن خلف بن صالح الطائّي خرج منها خائفًا يترقّب، ووصل إلى القاهرة والتحق بـ"إذاعة صوت أفريقيا باللغة السواحيلية" في "إذاعة القاهرة" مخرجًا ومحررًا؛ لقد كانت هذه الإذاعة في تلك الفترة من تاريخ أفريقيا سلح التحرير الذي لايُفلّ بشهادة الزعيم الكينيّ "جومو كينياتا" الذي خرج من بين القضبان ليتولى رئاسة الوزراء، فقد حكى لـ"محمد فائق" مسؤول تسليح "حركات التحرر الوطني الأفريقية" بـ"أن إذاعة صوت أفريقيا كانت ترفع معنوياته داخل سجنه"، وصرّح بأنه "لولا هذه الإذاعة ما كنا استطعنا أن نصمد".
ثم انتسب الفتى الطائيّ إلى "جامعة الأزهر" ليتخرج فيها عام 1972، وبعدها شدّ الرحال إلى العاصمة العراقية بغداد، بحثا عن نافذة إعلامية وأفق جديد بعد أنْ أوشكت الإذاعة السواحيلية أن توصد أبوابها، ورحابة عيش ضاقت به واستحكمت سُبلها، غير أنه لم يألف الحياة هناك وعاد على عجل لتلبية نداء السلطان قابوس بن سعيد- طيّب الله ثراه- للمشاركة في بناء النهضة العُمانية المباركة لينتظم في سلك العمل بوزارة الاتصالات موظفًا.
لكنما الأحداث العِظام، والمحنُ الكبرى لا تفت في عضد أصحاب الحق الشرفاء، ولاتطفيء جذوة التنوير المشتعلة في دمائهم، ولاتخبو أسرجة الدعوة الإسلاميّة الوسطيّة المنبعثة من صدورهم، ولا تخمد ذُبالة السلام الوضاءة المنيرة من دمائهم؛ فلم يكن من بُدٌّ أمام الفتى الطائيّ "علي بن محمد" إلا أن يواصل مسيرة الإبداع والتنوير لمواجهة حركة المد الشيوعيّ والإلحاديّ في "زنجبار" و"الجزيرة الخضراء" التي قادها الانقلابيّ عبد الرحمن محمد "بابو" ربيب الحزب الشيوعيّ الصينيّ، والابن البار للاستعمار البريطانيّ.
لقد آمن الفتى الطائيّ أنّ منظومة الإسلام الوسطيّ، وما تنطوي عليه من قيم أخلاقية وتربويّة هي رأسماله الذي لا ينفد، والرسالة السامية التي لا تفنى، والحكمة الأبديّة التي لا تبلى، بينما الدرهم والدينار مالٌ وهبه الله للإنسان اختبارًا لا اصطفاءًا؛ فإن وضعه في مصارفه الشرعية أعلى مقامه، وإن طغى به وتكبّر زحزحه عن الصراط وأماله، وركب الغرور رأسه وشانه، فاعتقد خيلاءً أن علمه المكتسب بأدوات عقلية دسّتها يد القدرة مسبقا في أناه الفانية ليكون سببا تسْتترُ وراء مغاليقِه غاياتُ المسبّب الأعظم، فيزيح على يديه الحُجُب ويهتك الأستار والغشاوات ليكشف عن علم جديد أخرت ظهوره مقادير إرادته، وهو مكتوب سلفا في لوحه المحفوظ، لعلّةٍ مرهونة بزمانها وموسومة بمكانها للإبانة عن عجائب صنعته ومطلق قدرته؛ فسبحان الذي تجلّى في عظمته وكل يوم هو في شأن.
لذا عكف الفتى الطائي في صومعة العلم، وانكبّ على الدرس والمطالعة، ودبّج تصانيف في الدعوة الإسلاميّة باللغة السواحيلية، ودفع للمطبعة بثلاثة كتب هي: "الصلاة" و"تعليم الصلاة" و"الصيام والطهارة".
ولأنَّ ساعة الرحيل موقوتة بعدد الأنفاس، وتتوقف عقاربها بغتة بلا مقدمات؛ فقد جَاءَ أَجَلُهُ في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مخلّفا وراءه أربع مخطوطات تحتاج إلى تحقيق ومراجعة؛ منهما اثنتان في "التاريخ العُمانيّ"، وقد عَنْون الأولى: بـ"زنجبار في ظل الدولة البوسعيدية 1832- 1963" وأمّا الثانية فعنوانها: بـ"تاريخ المذهب الإباضيّ"، وأمّا الثالثة فكانت بمثابة أنطولوجيا موسوعية بعنوان: "الأدباء العمانيون في زنجبار"، فضلًا عن "مجموعة قصصية مكتوبة باللغة السواحيلية".