د. محمد بن عوض المشيخي **
صناعة القرارات المصيرية التي تعتمد على التخطيط السليم والنظرة الثاقبة والرؤية الواقعية النابعة من طموحات المجتمع لم تكن سهلة أو ميسرة في يوم من الأيام؛ خاصة في الدول النامية التي يتخبط فيها قادة التغيير وصناع التنمية في ظلام دامس بسبب الفساد المالي والإداري والأنانية المفرطة والإهمال المتعمد والتركيز على المصالح الضيقة لفئة معينة من المجتمع فقط، في بيئة يسودها القرار الفردي الأحادي؛ بعيدا عن الدراسات العلمية التي توفر ذخيرة معرفية مهمة يمكن أن تساعد القائمين على تنفيذ السياسات التنموية وتوصيلهم إلى بر الأمان في أي بلد يسعى بجدية لصنع مستقبل زاهر للوطن.
الفشل في التخطيط والتنفيذ يؤديان إلى الانكسار وتحطُّم أحلام الشعوب على صخرة اليأس والحرمان مما يترتب على ذلك انتشار الاستياء بين أفراد المجتمع، ولعل ما يُعرف بـ"الربيع العربي" وتحديدًا ما حصل- في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج- من اضطرابات وفتن وتمرد ضد الحكومات العربية خيرُ مثالٍ على ذلك. ومن حسن الطالع أن نجد في هذا العالم المُلبد بالغيوم من حولنا من يقود دفة السفينة بحكمة واقتدار نحو المستقبل الواعد بخطى ثابتة وثقة راسخة كسلسلة جبال سروات الشامخة في المملكة العربية السعودية التي تعيش اليوم معجزة تنموية غير مسبوقة في مختلف المجالات من أقصاها إلى أقصاها فاتحة ذراعيها لكل أبنائها رجالا ونساء للمشاركة في بناء مملكة المستقبل التي أصبحت بفضل الله وقيادتها الحكيمة المتمثلة في خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير الشاب محمد بن سلمان، الذي يعد بحق مهندس وعراب النهضة المعاصرة في السعودية والمنطقة العربية قاطبة.
لا شك أنها قصة نجاح وتجربة رائدة لبناء الأوطان لنا جميعًا في المنطقة العربية لمن يريد أن يستفيد، فقد أصبح النموذج السعودي في التنمية الشاملة؛ يشار له بالبنان؛ بل وجدير بالدراسة والاطلاع عن قرب، فلعل النقلة العلمية التي تعيشها المملكة وحصول جامعاتها على الريادة والتميز في الساحة الدولية خير مثال على ذلك، إذ إنَّ جامعة الملك عبد العزيز بجدة حصلت على المركز الأول على مستوى الجامعات العربية حسب تصنيف (QS) البريطاني العام الماضي (2021)، بينما أتت 6 جامعات سعودية في المراكز العشر الأولى بين الجامعات العربية. لقد أصبحت الجامعات السعودية خاصة الحكومية منها تقود عجلة التنمية وترفد صناع القرار في هذا البلد العزيز بالدراسات العلمية والبحوث الاستراتيجية التي توفر الجهد والمال والوقت عند تنفيذ الخطط والمشاريع التي تشهدها بلاد الحرمين.
لقد تشرفت أن أكون ضمن كوكبة لا يتجاوز عددها 6 أشخاص من الأكاديميين والمفكرين من دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي الذين وُجِّهت لهم الدعوة من هيئة السياحة في المملكة العربية السعودية؛ لزيارة المملكة والاطلاع على إنجازات هذا البلد في إطار رؤية "المملكة 2030"؛ حيث زرنا الخميس الماضي معالم الرياض وخاصة مدينة الملك عبد الله المالية. وهي بحق مدينة رائعة بكل المقاييس؛ فكأننا نتجول في حي منهاتن في نيويورك مع اختلاف في الرقي واللمسات الجمالية والنظافة في الرياض. هذا المركز المالي الذي يحتوي على 59 ناطحة سحاب ويضم العديد من البنوك والشركات العملاقة مثل "أرامكو" وغيرها من المؤسسات المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة، من المتوقع أن تصبح الرياض عاصمة الشرق الأوسط التجارية خلال المرحلة المقبلة بعون الله. ومن إنجازات الصندوق السيادي السعودي زيادة أصوله ونمو أرباحه السنوية بمقدار 40 مليار دولار أمريكي العام الماضي على الرغم من جائحة كورونا التي ضربت الاقتصاد العالمي في الأعماق وأخرت وتيرة نمو اقتصادات الدول شرقًا وغربًا. لقد تحوَّل هذا البلد إلى مدن صناعية وحاضنات تكنولوجية واعدة، أشبه بورش عمل لتحويل الأفكار إلى مشاريع على أرض الواقع، وذلك في سباق مع الزمن لتحقيق رؤية 2030 للمملكة التي نفذت قبل موعدها بعدة سنوات بنجاح حسب الخطط المرسومة لها.
أما مدينة نيوم (The Line)- التي يحلو للبعض تسميتها بمدينة العجائب- وتقع على ساحل البحر الأحمر غربي البلاد، فسترى النور في مرحلتها الأولى العام المقبل 2023 إن شاء الله، فتتميز بطولها الذي يمتد لمائة وسبعين كيلومترًا وبعرض مائتي متر فقط، فهي مدينة ذكية ولا توجد بها سيارات أو شوارع؛ بل يمكن التنقل عبر القطار الذي يربط كل أجزاء هذه المدينة بعضها ببعض والتي تستخدم الطاقة النظيفة فقط. هذه المدينة خطط لها بشكل استثنائي لتجذب الرواد والعلماء وأصحاب المبادرات الاقتصادية من المملكة والعالم. فمشروع "ذا لاين" هو مشروع ثقافي واقتصادي انبثق من قلب الصحراء ليقدم للعالم طرازا معماريا جديدا ويوفر لسكانه كل ما يخطر على البال من طفرة تكنولوجية ورقمية وحياة تسودها الرفاهية في بيئة صحية وهادئة بعيدا عن الضوضاء والتلوث والزحمة.
في الختام.. لقد أدركت القيادة السعودية خطورة المركزية الشديدة في صناعة القرارات المتعلقة بالمناطق والمحافظات السعودية في بلد مترامي الأطراف، ومن هنا أتت فكرة نقل التنمية والخدمات إلى مختلف الحواضر السعودية تباعا، فكانت البداية بمدينتي الأحساء في المنطقة الشرقية ومدينة الطائف التي تعتبر البوابة الشرقية للمدن المقدسة مكة والمدينة؛ حيث تشكلت مجالس محلية في هذه المدن لتتولى تطوير هذه المدن لتواكب الرياض ومكة المكرمة؛ وتسريع خطوات البناء والتعمير وتبسيط الإجراءات للمواطنين والمقيمين في هذا البلد العزيز.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري