نظرية الحافلة

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

 

لا تزال مسألة تقدير نسبة الكفاءات والخبرات التي تحتاجها كلّ مؤسسة مسألة تُثير الحيرة، فماذا يمكن أن يحدث، لو أنَّ حافلة تحمل كل الكفاءات والخبرات بالمؤسسة تتعرض لحادث شنيع، ويموت كل من في الحافلة، فهل تتوقف المؤسسة عن العمل وتنهار؟

وماذا لو استقالت الكفاءات والخبرات في وقت واحد، كما حدث في إحدى المؤسسات، فقد استقال ثلاثون في المئة من موظفيها، فقامت المؤسسة بتوظيف موظفين آخرين بدلاً عنهم، وتم تعريف الموظفين الجدد باللوائح والقوانين والأنظمة المؤسسية، وتدريبهم عليها، لإكسابهم القدر المناسب من المهارات، وحدث ما لم تتوقعه المؤسسة؛ إذ سحب الكثير من الزبائن تعاملاتهم مع المؤسسة لصالح المنافسين، وبالتالي كانت خسارة المؤسسة المالية كبيرة، وبعد دراسة الأمر اكتشفت المؤسسة أن الزبائن قد اصطدموا بأسلوب مُغاير للخدمات والتعامل معهم من قبل الموظفين الجدد، ولم يرتقِ إلى مستوى التعامل السابق.

نفس الأمر يحدث مع عمليات الإحلال والتقاعد، ونقل الموظفين من مكان لآخر، إن لم تكن مخطّطة بشكل جيد، وفق خطة إدارة رأس المال البشري، واستثماره بالأسلوب الأمثل، تتسبب تلك العمليات في فراغ وظيفي وفوضى إدارية، إذ غالبا ما تقوم المؤسسات بتلك الخطوة دون خطط مسبقة، كما يحدث عادة مع بلوغ الموظف سن التقاعد فلا يتم إعداد البديل، للتهيئة الدوائر والأقسام، فتخسر المؤسسات أموالا طائلة وتراكمات معرفية لا يمكن استعادتها.

 أما في بعض القطاعات الحكومية، فإن حسابات الربح والخسارة لا تلقى نفس الاهتمام كما في نظيراتها الخاصة. ويتضح الأمر جلياً من خلال تدهور الخدمات وشكوى المراجعين، وضبابية الإجراءات وتغير القرارات الإدارية في زمن قياسي، ويحدث ذلك مع كل تغيير إداري أو نقل للموظفين، حتى يقال إن وراء كل فوضى إدارية، موظفون جدد لم ينالوا قسطًا من المعرفة، وغير ملمين بنظام العمل.

ذكرت لي موظفة أن الفوضى تسود في الدائرة التي تعمل بها، كلما خرج المدير في إجازة طارئة، ويتوقف العمل نتيجة الصراعات، وتسرّب الموظفين من العمل، حينها تذكرت حالة الفوضى التي تعتري التلاميذ مع غياب المعلم عن الفصل! تشابه في السلوك يعكس مستوى نضج الإدارة في الأول.

في "نظرية الحافلة" كانت خسارة الكفاءات بشكل مفاجئ، سببًا في الكشف عن هشاشة هيكل المؤسسة ونظامها الذي لم يخطط للمستقبل بوضع خطط بديلة للحالات المماثلة، وعادة ما يحدث ذلك في المؤسسات التقليدية، التي تعمل وفق الفكر الإداري التقليدي، والتي قد تتراجع أعمالها أو تنهار بعد التغيير، فهي مؤسسات بنيت بفكر أشخاص، ولم تبنَ وفق فكر مؤسسي؛ فالأشخاص المنتمون لتلك المؤسسات، هم من كانوا يملكون المعرفة وقاموا بوضع النظم والأسس التي تعمل عليها، وعادة ما تكون القرارات محصورة في أيدي القلّة التي تمتلك المعرفة، وعادة ما تغفل المؤسسات تأطير المعرفة، وتدوينها، وتعليمها لبقية الموظفين.هي مؤسسات لا تملك هياكل تنظيمية واضحة، وتعاني من تداخل الاختصاصات والصراعات بين منتسبيها، لوائحها غير واضحة أو عبارة عن مجموعة قوانين وقرارات غير متسقة ولا ترقى لأن تكون لائحة،أو تكون قد أعدت منذ عقود ولم تخضع للمراجعة والتطوير.

إن مفهوم المؤسسة المتعلمة مفهوم متأخر تطبيقه في مؤسساتنا، خصوصًا في القطاع الحكومي وبعض من مؤسسات القطاع الخاص، فالموظف الذي قضى سنوات في التعلم والتدريب، واكتسب الكثير من التجارب من خلال ممارسات العمل اليومي، وشارك في مؤتمرات وورش عمل ولجان واجتماعات ودورات تدريبية متخصصة كلفت أموالًا طائلة، لا يعد مجرد موظف عادي؛ فهو مجموعة من الخبرات غير المدونة، ويجب على المؤسسات نقل تلك المعارف والخبرات وتوثيقها، لتكون متاحة للكل، وتدويرها كرأس المال المعرفي للمؤسسة يستفيد منها بقية الموظفين من خلال برامج تدريب مهنية، واجتماعات مصغرة. من أهم عناصر اختيار القيادات في المؤسسة المتعلمة قدرتها على نقل المعرفة، وتعليم وتدريب الموظفين، لتحسين أداء المؤسسة، فمفهوم اختيار الموظفين المبني على الأقدمية أو الشهادة أو المحسوبيات، لم يعد صالحا لأنه يضرّ، ولا ينفع إلا إذا صرفنا النظر عن أهمية المهارات العلمية والإدارية والتواصلية للقيادي أو المدير.

إن فكرة "المؤسسة المتعلمة" هي فكرة سبقنا إليها الغرب منذ خمسة عقود تقريبًا، وهي تقوم على مفهوم أن العمليات المعرفية، تتطور أسرع من العمليات المادية، وأن التعلم أصبح بسرعة الضوء عبر القارات بفضل التكنولوجيا والإنترنت، أصبحت المؤسسات أكثر تقبلا لفكرة التغيير والتحول والتطور، كقبولها لفكرتي النجاح والفشل، مما يجعل من المرحلة الراهنة مرحلة قابلة للتحول في أية لحظة.

ظهر شكل جديد للتعلم وهو التعلم التكيفي، وهو يتعلق بسرعة الاستجابة والتعامل مع الأحداث التي تواجه المؤسسات التي بقاؤها مرهون بالتعلم والابتكار، كما هو الحال بالنسبة للإنسان سواء أكان موظفا أو فردا عاديا بالمجتمع.

يقول بيتر سينج مؤسس نظرية المؤسسة المتعلمة، ومؤلف كتاب يحمل نفس الاسم، إن التعلم الأهم هو قدرة المؤسسة على تغيير طريقة عملها، وهذا لا يتوقف على الإدارة العليا فقط، بل يشمل ثقافة العاملين ومدى انفتاحهم وعلى قدرة المؤسسة على تطوير ثقافتها.

في المؤسسة المتعلمة الموظف يعد شريكا في التطوير، والزبون هو أحد مصادر المعرفة وهو أكثر شخص عارف بحاجاته ورغباته،لذلك تولى المؤسسة اهتماما خاصا بالمعلومات الواردة من الموظف والزبون كي تطور من أعمالها.

على عكس المؤسسة التقليدية، فإن أعمال المؤسسة المتعلمة، لا تتأثر بغياب أو استقالة أو التقاعد أو الإحلال، فهي مبنية على أسس من التنظيم، وتمتلك ذاكرة تنظيمية توثق وتخزن فيها المؤسسة السياسات وإلإستراتيجيات والمعارف والمعلومات الضرورية في قواعد البيانات، حتى ثقافة العمل وأخلاقياته تكون مدونة وملزمة للجميع.

نحن نعيش في عالم مفتوح والمعرفة متاحة للجميع، فلا يمكن إخفاء التطور العلمي على الزبائن أو جمهور المتعاملين، والتعامل معهم على أنهم غير واعين .تتعلم المؤسسات كما يتعلم الأفراد، والتعلم لا يتوقف فهو مستمر ويتضح ذلك من خلال تطور الخدمات والمنتجات لتحقيق الميزة التنافسية المستدامة.

من الضروري جدًا الاستثمار في الوقاية، بتحويل المؤسسات التقليدية إلى مؤسسات متعلمة توفر المال والجهد فنحن في عالم سريع التحول والتغير وباتت الأزمات تتكرر في كل يوم ولتقليل الخسائر، لابُد من التغيير، وتقبل التحول وهذا ينطبق على كل شيء في حياتنا.