ماجد المرهون
يميل مُجتمعنا المُحافظ ومُعظم المجتمعات العربية إلى الحديث بنوع من العمومية عن قضايا مهمة تمس المجتمع أحيانًا مسًا لصيقًا، وقد نجنح في كثير من الأحيان إلى أساليب حديث سطحية ترمق من طرف خفي، وهذا أمر حسن إلى حدود مُعينة يحكمها مستوى الحدث، ولا بأس؛ فالحياء شعبة من الإيمان، ولكن عندما يصبح الخطر محدقًا بنا ويُمسي داهمًا يقض مضاجع الأسر والآباء والأمهات، فحينها يكون الحياء غير مجدٍ، والتلميح بالإشارة لن يؤتي أكله، والتلويح بمواد القانون لن يبرح مكانه، وتفرض الضرورة هنا نفسها بأهمية الحديث الصريح عنه؛ بل والصدع به جهرًا مع التوضيح المُباشر بالعبارة والتلويح الصريح بانعكاساته وأضراره.
وخطر المخدرات على مستوى العالم بات مؤرقًا للأهالي والسلطات على حد سواء، ونحن لسنا منه في معزل ولا بمأمن، فلا عاصم لنا من ثورة الاتصالات والمواصلات وخدع التجار وحيل المروجين في تطوير أساليبهم، وذلك يجعل من عالمهم شديد السرية صعب الاختراق. وقد يقول قائل: أين هو هذا العالم نحن لا نراه إلا في الأفلام؟ نعم هذا القول صحيح في وجهه العام وفي عالمنا الطبيعي المعتاد على الاعتبارات الاجتماعية سالفة الذكر والخصوصية التي تميزنا، ولكنه عالم ذو بُعد خاص وموجود بالفعل، يعمل في الظلام وله نظامه وطرقه وآلياته ويتطور مواكبًا للأحداث. وبما أنه يجري عكس تيار القوانين المحلية والدولية وينافي السلوك الإنساني القويم، فإنَّ الخلاف بين أفراده لن يحتكم إلى تلك القوانين التي يختص بها العالم الطبيعي لأنها وببساطة ضد استمراره.
عالم المخدرات ليس بالجديد وإن كان محدثًا علينا؛ حيث إن تاريخه يعود إلى 7 آلاف عام تقريبًا، وقد عرف الخشخاش عند السومريين بـ"نبات السعادة"، والآشوريون أسموه "كونوبو"، وأطلقت شعوب الإنكا الجنوب أمريكية على نبتتهم المخدرة اسم "كوكا"، كما استخدم الهنود نبات القنب الهندي في طقوسهم الاحتفالية، وسخرته طائفة الحشاشين الرهيبة في عمليات الاغتيال إبان الحروب الصليبية لترويض مجنديها والسيطرة على عقولهم، وذهب الأطباء العرب منذ القرن الثامن الميلادي إلى استحسان استخدامه في الأغراض الطبية والعمليات الجراحية.
والمُخدر هو كل ما يُسبب غياب الوعي والإدراك؛ سواءً كان تنويمًا أو تنشيطًا، فمنها الطبيعي ومنها المُخلّق صناعيًا، وكل ممارساتها تؤدي إلى تسمم المخ؛ حيث تنتشي بصاحبها إلى عالم زائف مُؤقت من الراحة والسكينة الوهمية من خلال تحفيز إفراز هرمون السعادة فوق معدلاته الطبيعية مما يصعب أمر عودته إلى طبيعته عند التوقف. وقد يجد الإنسان الطبيعي مُحفزات هذا الهرمون في أمور بسيطة جدًا مثل كوب قهوة أو شاي أو قطعة من الحلوى، وحتى في جلسة جميلة مع الأهل والأصدقاء في مكان هادئ وربما في الصلاة والتسبيح وقراءة القرآن، ولن نستثي طورًا سِنيًّا مُعينًا أو شريحةً عمرية محددةً، إلا أنَّ جيل العنفوان الذي يسهل التغرير به من المراهقين والشباب اليافع المندفع لحب المغامرة والتجربة وهو المستهدف، ليقع في حبائل تحقيق الأحلام الموعودة من خلال السعي وراء كسب مفرط للسعادة في زمن قصير بسبب وقت الفراغ الكبير، وقلة العمل، والحرية الكاملة، واستغلال ثقة الأهل المُطلقة بعد غياب دورهم في المتابعة والمراقبة وركونهم إلى مشاغلهم الدنيوية، فضلًا عن الشياطين المبثوثة ليلًا ونهارًا والمتخفية تحت قناع الصديق الذي سيذوب كالملح في مرحلة من مراحل تلك الصداقة المزعومة ويختفي إلى الأبد.
لقد خَلبت فكرة الجندي الآلي ألباب النازيين في الحرب العالمية الثانية ما دفع مخابيل الساسة إلى زيادة التركيز على جانب البحث العلمي في مجال الغازات والكيماويات كذراع حرب مساندة، وخلصوا إلى منتج كيميائي من مركبات "ميثامفيتامين" ثم أمروا الجنود بتناوله في المعارك ما زاد من قوتهم ونشاطهم بشكل مضاعف يدعو للغرابة والإعجاب، إلا أنَّ آثار الإدمان اللاحقة وعواقبه كانت عليهم وخيمة، كما تسربت أسرار تلك المُركَّبات بواسطة قوى الردع المضاد لتلقي مردتها على مريديها الموت الزؤام. وهكذا يستمر الحال مع كل متعاطٍ وقع في وهدة المخدرات وأسرته شراكها وجذبته إلى عالم التخييل، من تبسيط الصعب وتعبيد الوعر، واقتناع تام بأنَّ درب الشوك أمامه ما هو إلا طريق الحرير، يراه مختصرًا ناعمًا ويتهادى فيه معتقدًا بجماله وطول مداه والذي حالت جموح رغبات سالكه دون المبالاة بحتمية نهايته الوشيكة، حيث يتراءى له القمر أزرق فوق منارات قصره الزجاجي المكتنف بضباب أبيض ثلجي في ليلة منيرة زادتها ثريات الكريستال في عينيه توهجًا وإشراقًا مع صحبة قادمة من عوالم البعد الخامس، واتخذت لها رابية غربية تتدارس عليها مغامرات خواكين لويرا المعروف بـ"إل تشابو" (أكبر تاجر مخدرات في المكسيك)، حتى إذا أزف الوقت وخارت القوى وغيض العزيف ونسجت خيوط الفجر ذراتها الفضية فوق عباءة الليل القاتمة، لاحت فكرة جهنمية مع الجرعة الأخيرة في ختام الأمسية إلى نهايتين كلتاهما يسار فأدناهما الجريمة وأعلاهما الانتحار.
كلنا يرى اليوم ويعلم عن شعوب ومجتمعات أسلمت مقادتها لهذه الآفة اللعينة وأخلدوا إلى الأرض، فضرب عليهم تجارها قيدًا من حديد في ظاهره فرح وعيد وفي باطنه فقد وألم شديد، وركنوا إلى الكسل وقلة الإنتاج ونبذ العمل، فاجتاحتهم الجرائم واغتالتهم الأمراض الجسدية والعصبية وبسط عليهم الفقر رداءه الكثيف. كذلك فعلت اليابان وبريطانيا بالصينيين حتى منتصف القرن العشرين بتشجيعهم وإكراههم على تعاطي مستخلصات الأفيون من الهيروين والمورفين؛ ليصنعوا منهم مجتمعًا فاشلًا مسلوب الإرادة، فيسهل انصياعهم وتَسهل السيطرة عليهم.
سوف يذوي المجتمع مع استشراء هذه الآفة الخبيثة على المدى غير الطويل ومع تفشيها ستذبل ورود الشباب في ريعانها، وتتشتت جهود الوطن في مكافحتها ومحاربتها، ثم علاج تبعاتها ونتائجها، والرهان على إيلاء الثقة الكاملة للمراهقين وصغار السن من الشباب في هذا الجانب وهذا العصر، رهان يشوبه شيء من عدم اليقين. ولذلك نقول لكل ولي أمر وكل مسؤول: اشغلوا الشباب بما ينفعهم قبل أن يشغلوكم بما يضركم.