مسعود أحمد بيت سعيد
في الذكرى الثانية والخمسين لرحيل الزعيم العربي الكبير جمال عبد الناصر، تتدفق مشاهد الصمود والكبرياء وتلك القيم النبيلة التي مثلها في تاريخ الأمة العربية ونضالها التحرري المجيد فالرجل ظاهرة تاريخية فريدة قلما تتكرر في تاريخ الأمم والشعوب.
وما زال شديد الحضور في الأدبيات العربية منذ منتصف القرن العشرين وإلى الآن، وإليه تنسب الإنجازات والإخفاقات رغم عمره القصير وهذا دليل على مكانته وتأثيره، ولسنا بصدد مجادلة خصومه التقليديين الذين استوطنوا الهزيمة وحساسيتهم عالية تجاه قضية الحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية. واقترن اسمه على الدوام بمعاني العزة والكرامة الوطنية والقومية وفي مجرى العمل الثوري المخلص والمتفاني تحول إلى معبود الجماهير العربية وملهما والتي لمست بكامل حواسها وجوارحها وعقلها تطابق خطابه وأهدافه مع تطلعاتها وغايتها الدفينة لآلاف السنين؛ حيث التفت حوله ومنحته من التأييد ما لم يحظَ به غيره. الأمر الذي جعله يُعلن مرات عدة بأن الجماهير العربية قد أعطته أكثر مما حلم أو يحلم به أي فرد، وقد استطاع بما يتمتع به من مزايا وصفات قيادية وكاريزما نادرة أن يعبئ الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج بالاتجاه الذي يعزز قوتها ومحاولة القضاء على أحد أهم أسباب ضعفها ويوحد صفوفها.
وللرجل حكاية خاصة في عمان وخصوصاً ظفار ذات الهوى والنفس العروبي؛ حيث يذكر معظم معاصري تلك الحقبة أنَّه لا يخلو بيت من صوره، وعند سماع نبأ رحيله سُيِّرت الجنازات الرمزية وأقيمت المآتم وفتحت بيوت العزاء حزنًا على فقدان القائد التاريخي الكبير. لم يكن هذا الارتباط عاطفيًا وشكليًا كما يحلو للبعض تصويره وإنما يقف خلفه انحياز للخيار العروبي الوحدوي الذي اعتقدت الجماهير وهي محقة بأنه طريق الحرية والسيادة والنهوض والتقدم.
لقد حمل أبو خالد هموم الأمة العربية وأحلامها، وحال وجوده دون الانزلاق المذل نحو العدو الصهيوني، لقد أدرك الأعداء ما يمثله مشروعه الوطني والقومي التقدمي من تهديد لوجودهم الاستعماري ومصالحهم وفي وتوفير المقدمات المادية لمشروع الانتصار؛ لذلك لم يتوانوا في تشويه صورته والتشكيك بصدقية مشروعه.. وليس مجرد محض صدفة أن تحمل الطائرة الإسرائيلية التي حطت في العاصمة الإمارتية أبوظبي إثر مباحثات ما سمي باتفاق أبراهام مع الكيان الصهيوني اسم المستوطنة الإسرائيلية "كريات غات" التي أنشئت على أنقاض قرية عراق المنشية ومدينة الفالوجة التي حوصر فيها جمال عبد الناصر نفسه أثناء "حرب 48"، والتي شارك فيها كضابط في الجيش المصري حينها، ومنها خاطب رفيقه كمال الدين حسين وهو أحد الضباط الأحرار بأن الهزيمة تمت في القاهرة وليس في ميدان القتال، ومنها يبدأ التصحيح وهذا ما كان.
إن هذا الأمر يُظهر جزء من العقلية الإسرائيلية في كيفية إدارة صراعها مع الأمة العربية وضرب ذاكرتها ووجدانها الحي المقاوم..
وتأتي هذه الذكرى ونغمات التطبيع تعزف على البحور العربية؛ حيث يعتقد الكيان الصهيوني واهمًا أنه على طريق إحكام السيطرة على الأمة العربية من ضفاف المحيط إلى شواطئ الخليج العربي، والمشروع الصهيوني الذي بدأ طوباويًا حالمًا وغير قابل للتصديق قد غذت الهزائم العربية المتتالية أوهامه وفتحت شهيته الاستيطانية التوسعية ويعتبر التحليق في الأجواء أقصر الطرق إلى الأرض؛ حيث حقول الطاقة وسخونتها تطفئ لهيب عطشه.
ورغم الوهن والوجع والألم لن يطول الوقت الذي يرى فيه المطبعون يجوبون العالم وصكوكهم الاستسلامية بأيديهم بحثًا عن شركائهم دون جدوى. وتبقى حقيقة لا يستطيع الكيان المُحتل تجنبها مهما كان حجم الاختراقات وهي أن المشروع الصهيوني ولد في الشام وفيها سيُدفن.