ومن لها غير الجزائر؟!

 

د. سعيدة بنت خاطر الفارسية

على جبال الأوراس تقف الجزائر وحدها تُراقب وترصد بعيون "زرقاء اليمامة" ما آل إليه حال أمتها من تشرذم وضعف، فما كان منها إلا أن تبادر لتحريك السائد الراكد، وقد أخذت على عاتقها ترميم الصف العربي استعدادًا لعقد القمة العربية المقبلة، التي طال انتظارها، نظرًا لانشغال العالم بآفة مرض كوفيد-19.

لذا قررتْ الجزائر أن ترصد من خلال مرصدها الوطني للمجتمع المدني، نبض القاعدة العريضة للشعوب العربية، فكان هذا التجمع الأول من نوعه حيث اجتمعت فئات من المجتمع المدني العربي في مدينة وهران للمشاركة بمنتدى تواصل الأجيال لدعم العمل العربي المشترك وذلك خلال الفترة من 10 إلى 15 سبتمبر 2022. ولأنَّ الدولة المستضيفة هي الجزائر كان الحضور العربي شبه مكتمل، هنا- في الجزائر- التقينا بالوطن العربي من المحيط إلى الخليج، ربما لم تتخلف إلا دولة واحدة. وتضمن جدول البرنامج ومناقشاته وفقًا للجلسات المحاور الكبرى التالية: أولًا: مسيرة العمل العربي المشترك وتحدياته وآفاقه، وثانيًا: واقع ودور مكونات المجتمع العربي في ظل التحديات الدولية الراهنة وتداعياتها على العالم العربي، وثالثًا: المجتمع المدني كشريك فعال وقوة اقتراح في تنفيذ أهداف التنمية المستدامة.

وشارك في الملتقى أطياف وفئات المجتمع من رجال ونساء، ممثلين عن جمعيات المجتمع المدني، ومسؤولين ومفكرين وسياسيين ومثقين ودبلوماسيين سابقين، وعدد من الشباب الواعي، مجسدين بذلك تواصل الأجيال. وتفرعتْ من المحاور الكبرى عدة محاور فرعية لعل أهمها: محور إحياء الذاكرة والتواصل بين الأجيال خدمة للعمل العربي المشترك، فقد غفلنا بالفعل عن الشباب وتسببنا في تجفيف ذاكرتهم وإخلائها من قضاياها المصيرية المهمة، فوجد أعداء الأمة ذاكرة خاوية من السهل أن يتسربوا إليها وتسريب ما يرغبون فيه.

لقد ساد الاجتماعات روح الود والتآلف، فالجميع يتمنى نجاح المنتدى؛ بل ويحرص على أن تكون التجربة الأولى بادرة الخير لعمل عربي مشترك قادم، والجميع تحدوهم الآمال بنجاح هذه التجربة التي نأمل أن تعقبها تجارب أخرى قادمة وناجحة.

إنها المرة الأولى التي يُستمع فيها لصوت الشعوب وطموحاتها المستقبلية للحصول على تنمية مستدامة لحاضرنا ولأجيالنا القادمة.

في البدء أكاد أزعم أن كثيرًا من الوفود قد حضرت ولم تكن قد اتضحت في أذهانها الغاية من هذا التجمع، إلّا أنه بتتابع الجلسات تبلورت الرؤية وتجلت تمامًا، فخفتت أصوات الشكوى التي ظنها البعض فرصة لإسماع الآخر صوته من مرارة ما وصل إليه الواقع لديهم، لكننا بالفعل كل مِنّا يعرف مُعاناة الآخر، فنحن أمة وإن باعدوا بيننا، فإن لنا من الروابط والمشاعر ما يجمعنا ويوحد بيننا؛ بل إن حالنا هو ترجمان للمثل الخليجي القائل "كلنا ولاد رقية، وكلن عارف خيه".

فمن منِّا لا يعرف مايحدث في دولنا العربية شرقًا وغربًا؟ ومن منِّا لا يكتوي يوميًا بمجريات الأمور في غزة الصامدة وفي فلسطين الحبيبة التي طال أسرها، وأهلها صامدون مرابطون في أكناف بيت المقدس؟

إذن.. لا مجال للشكوى في هذا الملتقى، هنا جئنا لعمل عربي مشترك تتفجر منه ينابيع الأمل في تغيير السائد المؤلم، ومَنْ غير الجزائر قادرة على هذا في الوقت الراهن؟ مَنْ غير الجزائر التي تحظى نظرا لسياستها المعتدلة وتوازنها في العلاقات بتوافق معظم الدول العربية للحضور وقد كان؟

لقد كتب بعض الزملاء عن الملتقى بلغة الصحافة التي توثق الحدث، وهو الصواب، لكنني شاعرة، فاسمحوا لي أن أطلق سراح لغة الشعر في هذا المقال.

من المعروف أن الجزائر تقبض على قضية العرب الأولى فلسطين بمبدأ "لا إفراط ولا تفريط"، وقد كنتُ شاهدة بنفسي بصفتي رئيسة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء سابقًا على جزء بسيط من موقفها المشرف لمساندة القضية في اجتماع المكتب العربي لاتحاد الكتاب العرب بالجزائر (3- 5 ديسمبر 2011)، الذي شهد مناقشة تسديد ديون عضوية الدول العربية، وجاءت معظم الدول حتى الغنية منها غير مسددة متأخرات ما عليهم، وجاء اتحاد فلسطين مُثقلًا بالهم الذي يثقل كاهل المأسور؛ حيث هُدد بالطرد من مقره مع عدم التمكن من تسديد العضوية، وطبعًا تجمع عليهم مبالغ كبيرة، فما كان من الجزائر إلا أن سددت كافة الدين المتوجب على فلسطين، رغم أنَّ اجتماعات المكتب تنقلت بين الدول العربية الغنية، لكن الدين الفلسطيني ظل متراكمًا لم يُسدد إلا في الجزائر.

ولعل أجمل ما في هذا الملتقى، الدور الذي قام به المرصد من الرئاسة إلى أصغر عضو من الشباب في الاستضافة؛ حيث الابتسامة المشجعة لرئيس المرصد الوطني الأستاذ عبدالرحمن حمزاوي، تلك الابتسامة التي تحتضن الجميع وتبث التفاؤل بين العدد الكبير (140 عضوًا مشاركًا وما يقارب من 250 مع بقية المرافقين). ورغم العدد الكبير للضيوف، تمكن أعضاء المرصد من المحافظة على دقة النظام والمواعيد والالتزام، وكانوا يمثلون الحفاوة والكرم الجزائري الكبير خير تمثيل فطلبات الضيوف كانت تتحق في الحال بشكل أقرب إلى العبارة السحرية الشهيرة "شبيك.. لبيك".

ومع الاستفادة من جلسات المنتدى، هطلتْ علينا استفادات أخرى نتيجة للبرنامج السياحي الممتع حول مدن ثلاث، أولها الباهية وهران، وليست الباهية مجرد لفظ يصفها فهي مدهشة الجمال ساحرة الملامح بشكل يعجز الألسنة عن وصفها، إذن أتجاوز وهران لعجزي التام واستسلامي أمام جمالها الباذخ.

الزيارة الثانية كانت إلى تلمسان، مدينة أحملها في الحلم منذ صغري، وقد قرأتُ عنها استطلاعًا مصورًا في مجلة "العربي"، فاستقرت أمنية زيارتها في القلب، وها هي تنبض بالحياة أمامي برقص رجالها الشعبي الرجولي، وبفرسانها الذين لبسوا شموخ الجزائر حتى تلفعت به الخيول.

وها هو أحد بنود البرنامج يتحقق، فليس الشباب فقط من يحتاجون لإنعاش الذاكرة، حتى نحن الكبار أخذتنا تلمسان للبعيد البعيد.. إنها الملاذ الذي لاذ به الأندلسيون بعد طردهم من أسبانيا، وهي مدينة المرابطين عقب أن اقتحمها القائد يوسف بن تاشفين، وهي مدينة الموحدين، وعاصمة "الدولة الزيانية" فيما بعد. ولما كان الشاعر زاده الخيال بحثت في جمال ملابس بنات تلمسان وأزيائهن الأندلسية الفاخرة والقصرالمحيط بهن عن بنات الملك الأسير المعتمد بن عباد يرزح في سجن ابن تاشفين وداعًا تلمسان ".. وجادكِ الغيثُ إذا الغيث هَمَى".

وكان لا بُد من صحوة الوداع في الجزائر العاصمة؛ حيث فاح ختام الملتقى بالمسك الذي تسرب إلينا من رحاب الجامع الأكبر فيها، ويسمى جامع الجزائر أو المسجد الأعظم، وهو مشروع معماري إسلامي معاصر ويعد ثالث أكبر المساجد في العالم من حيث المساحة بعد الحرمين، والأكبر في أفريقيا، وبه أطول مئذنة بناها المسلمون حتى الآن بطول 265 مترًا كما أخبرتنا محدثتنا التي رافقتنا للشرح. وافتُتحت القاعة الرئيسية بجامع الجزائر في أكتوبر 2020، بمناسبة الاحتفال بذكرى المولد النبوي وأقيمت فيه أول صلاة جماعية بحضور رسمي. ويحق لجزائر اليوم أن تفخر بهذه التحفة المعمارية التي جمعت أصالة التراث الإسلامي ومهارة إبداع الحضارة العربية القديمة، فهو منجز عظيم بقاعاته ومكتباته ومنارته / مأذنته المتفردة.

ولا يحق لنا أن نختم زيارة الجزائر بدون التوجه إلى مقام الشهيد ويسمى أيضًا "رياض الفتح"، وهو نصب تذكاري للحرب الجزائرية يُطل على مدينة الجزائر العاصمة، بُنِيَ سنة 1982 بمناسبة إحياء الذكرى العشرين لاستقلال الجزائر، وفي ذكرى ضحايا الحرب التحريرية. فهل انتهت جولتنا بهذا الفن المخلد لذاكرة الجزائرالمبهرة؟ لو قلتَ نعم، فقد ظلمتَ الجزائر وظلمتَ نفسك التي حرمتها من رؤية أعظم صرح يخلد الثورات في العالم، وفيه سمعتُ هاتفًا اخلع نعليك إنك في المتحف الوطني للمجاهد، من يقصده يستذكر مآثر الثورة الجزائرية والثوار، وقبح المستعمر الذي لم يترك وسيلة من وسائل التعذيب الوحشية إلا وقام بها. ويضم هذا المعلم التاريخي عدة أجنحة كبرى تحكي تاريخ الثورة التحريرية وتعرض بالصور والنماذج تاريخ المقاومة الشعبية والنضال السياسي ثم اندلاع الثورة المسلحة.

ويلفت نظرك مقاومة الشعب العنيفة رجالًا ونساءً حكامًا وشيوخًا وعلماءً، فالباي/ حاكم الجزائر يتقدم صفوف المقاتلين، والشيخ عبدالقادر الجيلاني يتزعم المقاومة ويتقدم الصفوف، و"للا فاطمة" بفرسها وسيفها وصرامتها تقاتل في مقدمة الرجال، وجميلة بوحيرد ورفيقاتها علمن العالم معنى النضال الوطني.

وبعدُ كنت أتساءل لماذا إلى اليوم توجد وزارة تسمى المجاهدين بالجزائر؟!

أجابني متحف الشهداء، وأجابتني مقبرة الشهداء بالعالية التي تضم كثيرًا من رفات الشهداء من الشهيد عبدالقادر الجزائري إلى الشهيد بن بيلا والشهيد هواري بومدين والشهيد الشاذلي بن جديد والشهيد بوتفليقة، بمعنى أنهم لم يصلوا للرئاسة إلا عبر طريق المقاومة والكفاح.

إذن مَنْ لإيقاظ هذه الأمة؟ من لها سواكِ- ياجزائر- أيتها الرمز النضالي العظيم.

تعليق عبر الفيس بوك